أين أصبح ملف المخفيين قسراً في لبنان؟
منذ أيام رحلت أم رشيد حليمة اللداوي ورحل معها جزء من ذاكرة أهالي المفقودين خلال الحرب الأهلية اللبنانية. هذه السيدة التي حافظت على قضية ابنها حية لأكثر من أربعة عقود من الزمن، هي الرابعة من بين أهالي هؤلاء الذين رحلوا خلال الشهرين الماضيين، باغتهم الموت قبل أن يودعوا للمرة الأخيرة رفات أحبائهم وقبل أن يكتمل عقد “الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً” التي مضى على تأسيسها أربع سنوات بموجب القانون 105 الصادر عام 2018.
يحاول القائمون على القضية إبقاءها حية بطرق مختلفة، طوراً بحملات إعلانية كما حصل أخيراً بدعم من الصليب الأحمر الدولي والهيئة الوطنية للمفقودين، إذ يظهر شاب في المطار وهو ينتظر عودة جده المخفي منذ ثلاثة عقود، وطوراً بواسطة تحركات ميدانية ومحطات طقوسية لإحياء الذكرى. ولكن تبقى ذاكرة الأمهات والزوجات والأبناء هي الأكثر التصاقاً بالماضي الذي لم يتمكن السلام البارد في لبنان من التصالح معه بعد 30 عاماً من رفع المتاريس وإلغاء خطوط التماس على أرض الواقع، وبقيت ذاكرة الحرب ملتصقة بيوميات 17 ألف مفقود ومخطوف في الفترة بين عام 1975 (تاريخ انطلاق الحرب اللبنانية) و1990 عام انتهائها.
الذاكرة الحية
تكافح لجنة أهالي المفقودين في لبنان لانتزاع الاعتراف المجتمعي بقضيتهم بعد مرور 40 عاماً على بدء تحركاتها، وتعتبر الناشطة وداد حلواني (رئيسة اللجنة) أن “الأهالي دفعوا ثمناً غالياً لإقرار القانون 105 الذي شكل اعترافاً رسمياً بقضيتهم، كما يريدون من المجتمع أن يتبنى مطلبهم ويعترف بأحقية طرحهم”. فبحسب المرأة التي اختطف زوجها إبان الحرب الأهلية، هناك معاناة كبيرة لدى الأهالي وهم يسابقون الزمن من أجل إنصافهم على رغم مرور 40 عاماً على بدء تحركاتهم في 24نوفمبر (تشرين الثاني) 1982. ويطوي الزمن حقبات المطالبة، فمن جهة “يرحل عنا كل فترة أحد ناشطي النضال، وقد شهدنا خلال الشهرين الماضيين على رحيل أربع أمهات، أم رشيد اللداوي وأم عزيز وأم دانيال صوراتي ورياض هرموش شقيق أحد المفقودين”، مضيفة “نحن في سباق مع الزمن بسبب وفاة الأهالي وفقدان معالم المقابر الجماعية بفعل طمسها من خلال حركة البناء”. ولا بد من إنصاف أمهات يمتلكن شجاعة المطالبة وقوة الأمل، إذ يصررن على تحمل مرضهن وتحدي شيخوختهن من أجل الاستمرار في المطالبة، لأنهن “يأملن في أن تسهم المشاركة في التحركات المطلبية برؤية الابن المخطوف منذ 40 عاماً”.
وتقول حلواني “عار على لبنان بقاء هذا الملف من دون معالجة” وتتابع “هي ليست مسؤولية أهالي المفقودين وحدهم وإنما هناك واجب أخلاقي على الشعب اللبناني برفض الاستمرار بالتوسع العمراني والبناء فوق المقابر الجماعية ورفات المفقودين، ولا يجب التنازل عن الحس الإنساني والوطني في هذا الملف ودعم الهيئة الوطنية في تشكيلها وعملها”.
الحرب الأهلية وولادة المعاناة
وتؤكد وداد حلواني أن صدور القانون 105 كرس حق العائلات في معرفة مصير المفقودين بقوة التشريع، واضعة إياه في خانة “الإنجاز الذي جاء نتيجة نضال الأمهات اللواتي تحملن المصاعب عن المجتمع بأكمله”، ليتم الاعتراف رسمياً بحقهن الذي يناضلن لأجله وملفهن الذي ولد مع بدء الحرب الأهلية في لبنان عام 1975.
ومنذ عام 1982 بدأت مكونات لجنة الأهالي بالبحث الذاتي عن مصير المفقودين، “عملنا باللحم الحي وبمفردنا من دون أي دعم”، بحسب حلواني التي تروي “كنا نتظاهر تحت القصف والقنص خلال الحرب وكان الأهالي يتجمعون من المناطق كافة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب للمطالبة بحقهم وإبقاء الذاكرة حية وكان كل فرد من الأهالي يقود مساره الخاص للتفتيش عن مفقوده” ويتنقل بين مراكز الأحزاب والاستخبارات سعياً وراء بارقة أمل أو خبر عن ابنه.
تضيف حلواني “انتهت الحرب ولم يتم التعامل مع قضيتنا بجدية على خلاف الدول التي تحترم شعبها ففي أعقاب الحرب تعترف بمعاناتهم، وتسعى إلى حل كافة القضايا الشائكة والناشئة عن النزاعات، وصولاً إلى حلها بغية إقامة سلام دائم ومتين” ولكن كان على الأهالي في لبنان انتظار فترة طويلة من الزمن واستمرت المطالبة 30 عاماً قبل اتخاذ خطوة “محورية في نضال لجنة الأهالي وهي إقرار القانون” بحسب حلواني التي تؤكد أن “النضال انتقل إلى مرحلة جديدة لناحية منع تحوله إلى حبر على ورق”.
كما تطالب حلواني الأحزاب التي شاركت في الحرب الأهلية “سواء كانت داخل السلطة أو خارجها” بـ”التعاون وتقديم المعلومات في سبيل حل هذا الملف لأن قانون تشكيل الهيئة لا يهدف إلى محاكمتهم، فهو لا يعاقب على جرائم الماضي، وإنما يعاقب على الحاضر كل من يخفي معلومات من شأنها الكشف عن مصير المفقودين ويتنكر لحق الأهالي ويطمس معالم المقابر الجماعية”. وتعتقد بأنه “لو أقرت القوانين وبدأ عمل الهيئة مباشرة في أعقاب نهاية الحرب، لما كان الملف استمر حتى اليوم وتشعب”، مذكرة بأن “مطلب محاسبة 30 عاماً من ممارسة السلطة بعد الحرب هو أحد أسباب اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) وتحميل المسؤوليات لمن كان ضالعاً في إقفال الملف قبل المحاسبة”.
الهيئة الوطنية مكبلة
وجاء تشكيل الهيئة الوطنية كاستجابة أكيدة لضغوط مارسها الأهالي والرأي العام ونتيجة لصدور القانون 105 عام 2018، لكنها عانت عقبات كثيرة تدخل في إطار التضييق عليها، لذا باتت عرضة باستمرار لعدم الاستقرار الوظيفي وتشهد استقالات دورية بين أعضائها الـ10. وتؤكد حلواني أنه في يوليو (تموز) 2020 صدر أول مرسوم لتشكيل الهيئة ولكن “حصلت استقالات عدة بين أعضائها بذرائع مختلفة، صحية ومهنية وإدارية”، إلى ذلك فإن “أعضاء الهيئة هم من المتطوعين ووحده الرئيس المتفرغ هو الذي يحظى براتب شهري”.
وتروي حلواني “مسار الولادة المتعثرة للهيئة”، وتقول “بتنا اليوم أمام أربعة مراسيم لتشكيل الهيئة الوطنية بسبب الاستقالات المتعاقبة زمنياً، علماً أن المبدأ يفترض صدور مرسوم واحد لتشكيلها، وآخر تلك المراسيم صدر أخيراً في أكتوبر، وهو مرسوم تعيين ثلاثة أعضاء، اثنان يمثلان نقابتي المحامين في طرابلس وبيروت، وطبيب شرعي ممثل نقابتي الأطباء في طرابلس وبيروت، ليرتفع عدد أعضاء الهيئة إلى ثمانية من أصل 10. وتنتظر الهيئة تعيين قاضيين اثنين لاكتمال عقد الهيئة”.
وتؤكد حلواني أن القانون جاء ليعترف بحق الأهالي في جلاء مصير أبنائهم ولكن تطبيقه يبدأ بتشكيل الهيئة الوطنية المستقلة، وصولاً إلى الكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً.
الهيئة الوطنية وتأمين مقومات العمل
بعد مضي أربعة أعوام على إقرار إنشاء الهيئة، ما زالت تعاني عقبات إدارية وتنظيمية وتمويلية كثيرة. وتلفت كارمن أبو جودة (أكاديمية وعضو في الهيئة) إلى أنه “لم توفر الإمكانات للهيئة من أجل مباشرة عملها، ما زالت في طور التأسيس بحيث وضع النظام الداخلي والنظام المالي والنظام الإداري ومدونة السلوك واستراتيجية للأعوام الثلاثة المقبلة”، وتشكو من أنه “ليست للهيئة حتى الآن موازنة، كما تعرضت لسلسلة من الاستقالات وكانت هناك مساع لتعيين بدلاء”، موضحة “لقد تقدمنا بموازنتين إلى مجلس الوزراء ولكن لم نحصل في المقابل على ليرة لبنانية واحدة”، ناهيك عن “عدم وجود مقر للهيئة من أجل الاجتماع أو العمل”.
تتحدث أبو جودة عن تعاون مع الصليب الأحمر الدولي من أجل “بناء قدرات الهيئة”، كما تم توظيف شخص لمساعدة الهيئة في الأمور الإدارية، فيما يعمل الأعضاء الثمانية للهيئة على شكل متطوعين منذ قرابة السنتين ونصف السنة. وتأمل أبو جودة في أن يبدأ العمل على قاعدة البيانات في مستهل عام 2023 لأن “الهيئة لا تتمتع حتى الآن بالقدرة على التوثيق ولكن في المقابل هناك جمعيات تعمل على ذلك”، كاشفة عن عدم وجود إحصاءات نهائية لأعداد المفقودين إلا أنه يمكن الاستفادة من البيانات التي جمعها الصليب الأحمر الدولي لـ3 آلاف مفقود، وهي تشكل جزءاً من تلك الشريحة. ورداً على سؤال يتصل بتصنيف المفقودين انطلاقاً من حقبة الاختفاء أو الأدوار الممارسة ميدانياً، تجيب أبو جودة “نتعامل مع المفقودين كافة منذ عام 1975 وما يليه من حالات فقدان أو إخفاء من دون تمييز على أساس الجنسية أو العرق، كما أننا نتعامل مع ملف المعتقلين في السجون السورية”.
لتخلص أبو جودة إلى أن “العمل لم يبدأ بعد لتقفي الأثر والكشف عن مصير المفقودين وهو أمر يتطلب كثيراً من الجهد والإمكانات لجمع المعلومات وبناء قاعدة بيانات”.
مؤتمر صحافي في نادي الصحافة
ولمناسبة مرور أربعة أعوام على إقرار القانون 105، عقدت الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً مؤتمراً صحافياً في نادي الصحافة، تضمن كلمة لزياد عاشور باسم الهيئة الذي تحدث عن ثلاث مراحل من التحديات المرتبطة بالقضية، المرحلة الأولى منذ عام 1975 لغاية 1990 تاريخ انتهاء المعارك، وانطلاق مسار السلام الذي أنتج وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف 1989)، مشيراً إلى أن هذه المرحلة خلفت 17 ألف مفقود ومخفي قسراً وأوجدت قضية عابرة للمناطق والطوائف والأحزاب. أما المرحلة الثانية، فهي بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني ولغاية عشية إقرار القانون 105، وكانت تتصف بالبطء والجمود من أقصى الخيبة إلى بداية الأمل. وبالنسبة إلى المرحلة الثالثة فهي “التي نشهدها اليوم والتي بدأت مع إقرار القانون” الذي يصفه عاشور بأنه “خطوة رسمية فتحت أفقاً جديداً في مسار العدالة الانتقالية في لبنان”، جازماً أن “نجاح الهيئة الوطنية في مهمتها الإنسانية يشكل مدخلاً لطي صفحة الماضي والحروب والنزاعات الأهلية ومعالجة ما تبقى من ذيول هذه المرحلة وتصحيحاً لمسار طويل من الإهمال لهذه القضية الإنسانية المؤلمة”.
المصدر : بشير مصطفى – أندبندنت عربية.