تابعوا قناتنا على التلغرام
مقالات مختارة

قائد فاغنر: الطبّاخ الذي صار أقوى جنرالات روسيا

“إحزم أمتعتك واذهب إلى الصفوف الأمامية”… هكذا ردّ زعيم مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين على نائب في الدوما الروسي وصف المجموعة بـ”اللاشرعيّة”، واتّهمها بعدم الامتثال لتعليمات قيادة الجيش الروسي ووزارة الدفاع، ودعا إلى معاقبة كلّ جندي روسي يلتحق بقوات “فاغنر” بالسجن 15 عاماً.

أمّا مقاتلو “فاغنر” على الجبهات فأرسلوا تحيّاتهم إلى هذا النائب من خلال فيديو من أرض المعركة نشروه على وسائل التواصل الاجتماعي، توعّدوه فيه بالافتعال به وسط الساحة الحمراء، فما كان من هذا النائب إلّا أن انكفأ وأعلن توقّفه عن توجيه أيّ رسائل عتب أو اتّهام لـ”فاغنر”.

هذه عيّنة صغيرة من النفوذ الذي يتمتّع به “طبّاخ الريّس” داخل روسيا، وهو الذي يقود ميليشيا عسكرية ينتشر عناصرها في أكثر من بلد بينها سوريا، ومالي، ودول أميركا اللاتينية وأماكن أخرى عديدة. هذا الطبّاخ الذي أهدى بوتين نصراً عزيزاً خلال الساعات الماضية، وهو احتلال مدينة باخموت، التي استماتت القوات الأوكرانية في الدفاع عنها، ونفى الرئيس فولوديمير زيلينسكي مراراً سقوطها، قبل أن يعلن أمس الأوّل: “لقد باتت في قلوبنا فقط… لكن لم يبقَ منها شيء. لقد دمّروا كلّ شيء”.

من هو بريغوجين؟
برز اسم يفغيني بريغوجين (61 عاماً) في وسائل الإعلام الغربية، خصوصاً في عام 2016 بعدما فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات بسبب دور إحدى شركاته (وكالة الأبحاث على الإنترنت) في التأثير في الانتخابات الأميركية التي أدّت إلى فوز دونالد ترامب ووصوله إلى البيت الأبيض.

ارتبطت مسيرته التجارية بتسويق الطعام والموادّ الغذائية، فبدأها ببيع سندويشات النقانق قبل أن ينشىء سلسلة متاجر للبقالة، ثمّ انتقل إلى إنشاء سلسلة مطاعم، أشهرها موجود في مسقط رأسه ورأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سان بطرسبورغ.

هناك استضاف بريغوجين الرئيس الفرنسي جاك شيراك وبوتين في أحد مطاعمه، وفُتحت له أبواب الكرملين، فأمسى “طبّاخ الريّس”.

بريغوجين هو اليوم، من بين الشخصيات الأكثر إثارة للجدل داخل روسيا. انطلق من لا شيء وتحوّل إلى أحد كبار الأغنياء في البلاد، مكتسباً مكانة خاصة في مربّع القرار حتى إنّه يصنّف ضمن الشخصيات التي تشكّل الدائرة الضيّقة جدّاً المحيطة ببوتين. أمسى اسم بريغوجين متداوَلاً منذ مدّة على لسان وسائل الإعلام في الداخل والخارج، لدرجة أنّ صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية اتّهمته قبل أيام بـ”الخيانة” من خلال التفاوض مع المخابرات الأوكرانية من أجل تسليم مواقع الجيش الروسي في باخموت المحاصَرة.

أمّا الكرملين فردّ على تلك التهم بسخرية، مدافعاً عن بريغوجين، إذ اعتبر تلك التهم “ركيكة” ولا ترتقي إلى الجدّية، بل تحمل بذور فسادها في ذاتها، لأنّ الولايات المتحدة بالتسريب نفسه حذّرت الاستخبارات الأوكرانية من التعامل مع زعيم “فاغنر”، قائلة: “انتبهوا… على الأرجح بريغوجين يخدعكم”.

بوتين يغضّ الطرف
بخلاف قرب بريغوجين من بوتين وعلاقتهما الشخصية، اكتسب الرجل منذ بداية الحرب في أوكرانيا قوّة فائقة، واستطاع أن يكسب “غضّ الطرف” من زعيم الكرملين عن كلّ ما يقوله أو ما يقوم به. خلق بريغوجين حالة إرباك في صفوف القيادة، فأمسى المراقبون يحتارون في تصنيفه ضمن التسلسل الهرمي للجيش والاستخبارات في روسيا. هل هو قبل وزارة الدفاع أم بعدها؟ هل هو أهمّ من الجيش أو أقلّ أهمية؟

استند بريغوجين إلى مجموعة من المعطيات يصعب القفز من فوقها وجعلته يحتلّ تلك المكانة المميّزة التي فتحت له الأبواب وجعلته مطاعاً من الجميع في كلّ ما يطلب ويريد، وتُلخّص بالتالي:

1- أُنشئت “فاغنر” من أجل أن تكون “يد روسيا” العسكرية خارج حدودها، فتتدخّل في بلدان عدّة من دون أن تتحمّل دولة روسيا المسؤولية عن أيّ من تلك الأعمال، فلا تُعتبر روسيا “دولة محتلّة” إذا وُجدت هذه القوات في بلد، وكان هذا مصدر قوّة بريغوجين و”فاغنر”.

2- خوض المعارك بواسطة وأسلوب الميليشيات مثل “فاغنر” أقلّ كلفة مادّية من إرسال قوات نظامية، وأسهل في الحركة. إذ يقتصر عمل الوحدات النظامية في هذه الحالة على توفير الإسناد الجوّي والمدفعي عند الحاجة، وتكون بذلك في مأمن من نيران العدوّ… فماذا يريد الجيش الروسي أفضل من ذلك؟

3- تقول القاعدة إنّه في حالات الحرب (خصوصاً إذا طالت) يلمع نجم الشخصيّات العسكرية التي تستطيع أن تلعب دوراً سياسياً فيما بعد. في حالة “فاغنر” هذه القاعدة غير قابلة للتطبيق، لأنّ بريغوجين يدرك أنّه لن يشكّل تهديداً سياسياً لبوتين أبداً، فهو لا يتمتّع بأيّ دعم داخل النخبة الحاكمة الروسية باستثناء رعاية بوتين الخاصة، وبوتين حريص على إبقاء الأمر على هذا النحو من أجل كبح “جماح الجيش”، الذي ربّما يعتبره تهديداً محتملاً لحكمه، وهو ما يفسّر “منسوب التسامح” الذي يُظهره بوتين مع “طبّاخه”.

4- بريغوجين ومؤسّسته “فاغنر” أزاحا عن كاهل القيادة السياسية في موسكو “سخط الشارع”، الذي تعرّض للإحباط من النتائج الأوّلية للحرب في أوكرانيا، خصوصاً مع زيادة منسوب الخسائر البشرية بداية الحرب. بوجود “فاغنر” تنفّس الشباب الروسي الصعداء بعدما علموا أن لا حاجة إلى سوقهم إلى التجنيد الإجباري، لأنّ “فاغنر” تفي بالغرض وتسدّ النقص. شكّل وجود “فاغنر” عامل ارتياح داخل المجتمع الروسي، ولم تعد ترى شبّاناً يحاولون السفر عبر الحدود، كما حصل في الأيام الأولى يوم أعلنت القيادة الروسية التعبئة العامّة.

5- مهما علا صراخ بريغوجين وانتقد القيادات العسكرية، أو تمادى في ردّات فعله، فستظلّ تلك القيادة تتحمّل وتصبر لما فيه مصلحة الجميع. فالقيادة العسكرية لم تكن بعيدة عن تحقيق المكاسب مع دخول “فاغنر” أرض المعركة بتكتيك حرب الشوارع والهجوم بمجموعات صغيرة، لأنّ ذلك خفّف من خسائر الجيش النظامي وأعطاها فرصة للاستراحة والتفكير والتخطيط، إذ تشير التقديرات إلى أنّ 75% من الجيش الروسي لم يتأثّر بالحرب الأوكرانية.

تعلم قيادات الجيش الروسي أنّ خسائر “فاغنر” البشرية هي في صفوف متعاقدين سوادهم الأعظم من السجناء والمحكومين بسنين طويلة، وبالتالي تبقى خسارتهم على الرغم من صعوبتها أخفّ وطأة ووقعاً من خسارة جنود نظاميين وسخط أمّهات يخفن إرسال أبنائهنّ إلى الحرب.

وللدلالة على كلّ هذا، تكفي مراقبة أسلوب تعاطي وسائل الإعلام الروسية مع بريغوجين، الذي يُصوّر اليوم على أنّه “بطل” يحقّق الانتصارات في أرض الوغى، ومع ضبّاطه الذين تستمرّ الصحف الروسية في نشر مقابلات معهم وتمجّد الروح القتالية التي يتمتّعون بها هم وعناصر “فاغنر”.

مهما تذمّر بريغوجين أو تأفّف أو سخط، فسيبقى مدلّلاً لدى بوتين لضرورات الحرب، وستبقى وزارة الدفاع تسمع وتصمت… وتلبّي طلباته العسكرية.

نبيل الجبيلي نقلاً عن “أساس ميديا”

Reporter2
Author: Reporter2

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى