“النصفية الأمريكية” تحدّد مستقبل العلاقات بين واشنطن والرياض !
عماد الشدياق نقلا عن “عربي 21”
أيام قليلة تفصلنا عن موعد الانتخابات الفرعية في الكونغرس الأمريكي، التي يترقب نتائجها العالم بأسره لما لها من أهمية وتأثير على ملفات عدة حول العالم. الحزب الديمقراطي الأمريكي يعتبر تلك الانتخابات مصيرية، وستحدّد مستقبله السياسي ومستقبل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن واحتمالات فوزه بولاية ثانية، وذلك لقدرتها على شلّ عمل إدارته والحدّ من تحركاتها الداخلية والخارجية، وخصوصاً في حال خسر الديمقراطيون الأغلبية في المجلسين (النواب والشيوخ).. وهو ما ترجّحه استطلاعات الرأي الأمريكية إلى حدّ بعيد.
وفي حين يراهن الحزب الجمهوري على نتائج تلك الانتخابات، من أجل كبح التفرّد الديمقراطي في رسم السياسات الخارجية التي يعتبرها الجمهوريون مدمرة للولايات المتحدة، بعد أن حوّلت إياها إلى “دولة مارقة” (على حدّ قول الرئيس السابق دونالد ترامب)، فإنّ الجمهوريين يحاولون اليوم أيضاً من خلال الفوز بتلك الانتخابات، استعادة ما تبقى من احترام لمكانة الولايات المتحدة إزاء حلفائها التقليديين حول العالم.
المنافسة بين الحزبين تعيدنا حكماً إلى قرار منظمة “أوبك بلس”، بداية الشهر الفائت، الذي قضى بخفض إنتاج النفط بحدود مليوني برميل يومياً، وهو الأمر الذي أثار غضب الديمقراطيين واعتبروه موجهاً ضدهم، ويحاول مساعدة روسيا على الإفلات من العقوبات المفروضة عليها نتيجة الحرب في أوكرانيا. في حينه، وصل التصعيد بين أوساط الديمقراطيين إلى حدود “الجنون”، وذلك نتيجة الخوف من تبعات هذا القرار على أسعار الوقود، التي أثارت غضب الناخب الأمريكي وعززت من احتمالات خسارة الحزب الديمقراطي في صناديق الاقتراع، فدفعهم مرغمين إلى صرف كميات كبيرة من المخزون الأمريكي النفطي الاستراتيجي، فوصل إلى مستويات لم يرَها منذ 38 عاماً، ودفع بالمملكة العربية السعودية إلى حدّ اتهام إدارة بايدن بـ”التلاعب بالأسواق” (وزير الطاقة السعودي خلال مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض قبل أيام).
أعضاء الكونغرس الديمقراطيون، حشدوا الدعم على مدى الأسابيع الماضية ضد قرار المنظمة، وخصوصاً ضدّ المملكة العربية السعودية، وبطبيعة الحال ضد موسكو أيضاً. أطلقوا التهديدات ضد السعودية، ولوّحوا بوقف دعمها عسكرياً، وساقوا الاتهامات بحق الرياض.
فما الذي حصل بعد ذلك؟ وما كان موقف الرياض ودول الخليج والشرق الأوسط وموسكو؟ هل هدأت العاصفة؟ أم أنّ الديمقراطيين لن يناموا على ضيم، ويتحيّنون الفرصة للانتقام في حال فازوا في تلك الانتخابات؟
في النتائج، وبمراقبة سريعة لتداعيات مواقف “الحزب الديمقراطي”، فإنّ ما يمكن ملاحظته، هو التالي:
أولاً، على الرغم من أنّ قرار المنظمة “تقني” صرف لا علاقة للسياسة به، ويرمي إلى الحفاظ على استقرار أسعار الطاقة والحفاظ على توازن “العرض والطلب” في السوق، إلا أنّ الديمقراطيين رفضوا الاعتراف بذلك، واستمرّوا بالنفخ في أبواق الخلافات مع حلفائهم التقليديين في الخليج العربي. لم يوقفوا حملاتهم الإعلامية إلاّ بعد اصطفاف أغلب الدول العربية إلى جانب المملكة، والتأكيد على موقفها “التقني”، وهذا ما قاد الديمقراطيين أخيراً صوب التهدئة، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات.. لكنها تهدئة إلى حين فيما يبدو!
ثانياً، لم ترضخ السعودية لتهديدات الديمقراطيين، بل واصلت مراعاة ما اعتبرته “مصالحها الخاصة”، التي تنطلق من قرارات مستقلّة وتخصّ السيادة الوطنية، وهو ما أكدت عليه أيضاً دولة الإمارات العربية المتحدة. فأخفق الديمقراطيون في إخضاع الرياض وحلفائها، وبالتالي إجبارهم على الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا. كما أخفقوا كذلك في عزل روسيا عن دول الخليج وأغلب دول الشرق الأوسط، التي لم تستجب لواشنطن والدول الأوروبية.
ثالثاً، الصراع السياسي الداخلي على المقاعد النيابية في الكونغرس، أفضى إلى إظهار لا مبالاة رهيبة في أوساط المسؤولين الديمقراطيين حيال الأزمات الدولية، وخصوصاً حيال مصالح حلفائهم في دول الخليج والشرق الأوسط، وهو ما وضع الديمقراطيين في مأزق قد يصعب حلّ ذيوله مستقبلاً من دون التراجع والانكفاء.
رابعاً، من أجل تبرير السياسة الداخلية والخارجية التي تنتهجها إدارة بايدن، واصل أعضاء الكونغرس الديمقراطيون، البحث عن أعداء إضافيين حول العالم، من أجل تصوير أنفسهم على أنهم “مستهدفون” من “محور” جديد يضم إلى جانب روسيا والصين، دول الخليج.. وهذا غير صحيح طبعاً!
خامساً، مواقف الديمقراطيين الأخيرة تجاه حلفائهم الخليجيين، زاد دول الخليج إصراراً على التقارب مع موسكو، التي أظهرت التزاماً بالوعود التي تقطعها على شركائها، وذلك بخلاف وعود الولايات المتحدة التي كانت تُنكث عند محطات عدّة، كان آخرها المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي، أو عند أيّ استحقاق داخلي ضيّق مثل الانتخابات الآن.
من خلال ذلك، استطاعت روسيا أن تحافظ على علاقة ودية طيبة مع كلّ من السعودية والإمارات، ومع جميع دول الشرق الأوسط. وبالتالي، أحرزت موسكو نتيجة ذلك، ما تسميه الأوساط الروسية “مستوى استراتيجيا” من التفاعل مع دول الشرق الأوسط والخليج العربي. وكانت زيارة رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد إلى روسيا قبل أسابيع، بمنزلة تتويج واضح لنجاح موسكو في تعزيز هذا التفاعل، حيث حرصت على إظهار أهمية تلك الزيارة والدفع نحو المزيد من تعزيز علاقاتها مع أبو ظبي.
سادساً، نتيجة لتوالي الأزمات الاقتصادية داخل الولايات المتحدة، وبعد غضب الأمريكيين من ارتفاع أسعار البنزين، رضخ بايدن للأمر الواقع، وتخلى عن وعوده الانتخابية المتصلة بتحويل المملكة العربية السعودية إلى “دولة منبوذة”، ثم زارها في شهر تموز/ يوليو الماضي، على أمل إقناع السعوديين بزيادة كمية الإنتاج. وبعد أن فشلت محاولاته في إقناع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لجأ بايدن إلى الخطة “ب” (الموجودة منذ البداية وكان الرئيس بايدن يتجاهلها). لجأت إدارة بايدن إلى المخزون النفطي الأمريكي الاستراتيجي من أجل ضبط أسعار المحروقات.. وهذا يشير صراحة إلى أنّ الديمقراطيين لا يولون الأهمية إلاّ لمصالحهم الضيقة، حتى لو كان ذلك على حساب حلفائهم.
أما اليوم، فإنّ فوز الديمقراطيين في الانتخابات (خصوصاً في مجلس الشيوخ) قد يعيد إلى الواجهة قانون “نوبك” لمواجهة قرارات حلفائهم في “أوبك” و”أوبك بلس”. هذا القانون من شأنه أن يمنح القضاء الأمريكي الحق في النظر بدعاوى “مكافحة الاحتكار” ضد منتجي “أوبك”، وفي حال تمريره سيحصل الادعاء العام الأمريكي، على خيار مقاضاة التكتلات النفطية وأعضائه أمام المحاكم الفيدرالية.
في هذه الحالة، فإن الدول المنتجة للنفط الكبرى مثل روسيا والسعودية والإمارات وغيرها، لن تقف مكتوفة الأيدي، وقد تردّ بتقييد الاستثمارات الأمريكية في بلدانها، أو ربّما برفع أسعار النفط المباع إلى الولايات المتحدة.. وهذا كلّه ربّما يقود إلى مواجهة حتمية مستقبلاً بين الطرفين، ويعيد رسم مستقبل العلاقة بين واشنطن والدول المنتجة للنفط، وخصوصاً السعودية والإمارات!