كازاخستان تغازل روسيا اقتصادياً وتنهَرها سياسياً..!
عماد الشدياق نقلا عن “عربي21”
للحديث عن العلاقة بين كازاخستان وروسيا، واستيعاب ما تعتريه من تناقضات مستجدّة بعد الحرب في أوكرانيا، لا مفرّ من التوقف عند أربعة أخبار وردت في الصحف والمواقع العالمية في الأسبوعين الماضيين، لما تحمله تلك الأخبار من معانٍ تدلّ إلى: نمط العلاقة المستقبلية التي تتشكّل بين البلدين الجارين، وماذا تطمح إليه كازاخستان بالتحديد.
1. ما أعلنت عنه شركة “ترانس نفت” الروسية المشغلة لخط أنابيب “دروجبا”، حول تلقيها طلباً من نظيرتها الكازاخستانية لحجز طاقة استيعابية في الخط، بغية نقل إمدادات نفطية غربا وتحديداً صوب ألمانيا مع بداية هذا العام، لتصل إلى 1.2 مليون طن.
2. ما أعلنت عنه شركة “ماكدونالدز” الموجودة في كازاخستان منذ العام 2016 عبر 24 فرعاً جلّها في العاصمة السياسية أستانا والاقتصادية ألماتي؛ بقدرة توظيفية تصل إلى 2000 موظف، عن إغلاق أبوابها في كازاخستان بسبب النقص في اللحوم الروسية.
3. تمديد الاتفاق بين روسيا وكازاخستان لنقل النفط شرقاً، وتحديداً إلى الصين لنقل ما يصل إلى 10 ملايين طن من النفط الروسي سنوياً، ولمدة زمنية تمتدّ إلى مطلع شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2034 (عشر سنوات).
تُظهر تلك الأخبار حجم ارتباط الاقتصاد الكازاخستاني بنظيره الروسي، وتؤكد أنّ أيّ قطيعة محتملة بينهما قد تكون في منزلة “الإعدام” للاقتصاد الكازاخي، ولهذا السبب فإنّ القطيعة مع روسيا تراها أستانا أمراً شبه مستحيل
4. إعلان رئيس كازاخستان عبر وزير خارجيته مختار تيل وبردي، من طوكيو، عن استعداده لإجراء مفاوضات بين الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي، سعياً لوقف الحرب، نتيجة تأثير العقوبات المفروضة ضد روسيا على الاقتصاد الكازاخي المجاور.
هذه الأخبار الأربعة، هي “بوصلة” ما تطمح إليه كازاخستان وتريده في مجال التعاون الاقتصادي مع روسيا. تُظهر تلك الأخبار حجم ارتباط الاقتصاد الكازاخستاني بنظيره الروسي، وتؤكد أنّ أيّ قطيعة محتملة بينهما قد تكون في منزلة “الإعدام” للاقتصاد الكازاخي، ولهذا السبب فإنّ القطيعة مع روسيا تراها أستانا أمراً شبه مستحيل.
لكن في السياسة، فإنّ الحديث مختلف، خصوصاً إذا ما قورن مع الخطاب السياسي الذي تتبنّاه أستانا عبر دبلوماسييها حول العالم، وخصوصاً إزاء موقف بلادهم وهواجسها تجاه روسيا وتجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ نحو سنة.
في المبدأ، فإنّ الرسائل الدبلوماسية الكازاخستانية الصادرة إلى عموم دول الخارج، تقوم على المبادئ التالية:
– تتمسك كازاخستان بموقف محايد من الصراع في أوكرانيا، مع تأييدها القوي لوحدة الأراضي الأوكرانية، وعدم اعترافها بضم روسيا للأقاليم الأربعة.
– تجاهر بدعم الشعب الأوكراني، وذلك بدافع أنّ المجتمع الكازاخستاني متحمّس من تلقاء نفسه لمساعدة إخوته الأوكرانيين، من منطلقات إنسانية وليس عسكرية (التسريبات في الإعلام تظهر مشاركة كازاخستان في بيع السلاح لأوكرانيا).
– ترفض سياسة موسكو القائمة على “التدخل” في شؤون الدول المجاورة، لأنّها محاولة لاستعادة زمن الاتحاد السوفييتي، وبالتالي فإنّ الحرب ضد أوكرانيا كانت تنطلق من تلك الأهداف، التي تشكّل ضمناً تهديداً لسيادة كازاخستان أيضاً.
– تبدي كازاخستان استعدادها للدفاع عن مصالحها الوطنية عبر مواقف أكثر حزما، وليس بالضرورة مواقف دبلوماسية فحسب.
– تنظر كازاخستان إلى كييف بعين الحسد، لكونها استطاعت أن ترسم مسافة بينها وبين موسكو وتطمح لفعل الأمر نفسه (تمكنت أوكرانيا من انتخاب ستة رؤساء، بينما انتخبت كازاخستان رئيساً واحداً فقط بعد انهيار الاتحاد السوفييتي).
– تمتثل كازاخستان للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وفي الوقت نفسه ترفض تقديم المساعدة لموسكو من أجل تجاوزها.
– تحترم العلاقات مع روسيا من منطلقات التجاور والحدود المشتركة، خصوصاً في مجال التعاون الاقتصادي مع موسكو.
أمّا روسيا، فتنظر إلى هذا الموقف السياسي المستجد من جارتها القابعة على حدودها بطول 7644 كلم، على أنّه “لعبة مزدوجة” وشديدة الخطورة، ولا تستبعد أن تتحوّل تلك السياسة، عاجلاً أم آجلاً، إلى “هزيمة”.
بل أكثر من ذلك، تعتبر موسكو أن موقف كازاخستان المستجد أشبه إلى “الطعنة في الظهر”، خصوصاً إذا ما اتصل هذا الموقف بالمعلومات المسرّبة عن بيع كازاخستان معدات عسكرية وأسلحة إلى أوكرانيا عبر دول ثالثة.
في المجال الأمني، تعتبر موسكو أن كازاخستان لم “تحفظ الود” الذي قدّمته لها، عقب الاحتجاجات التي اشتعلت في البلاد قبل سنة بالضبط، وكادت أن تؤدي إلى “انقلاب” يطيح بالنظام، فتعتبر أنّه لولا تدخلها في ألماتي في حينه، لكان “السيناريو” في أوكرانيا منذ العام 2014، يحدث اليوم على الأراضي الكازاخستانية.
أمّا في المجال العسكري، فترى موسكو أنّ كازاخستان أعطت الأولوية للتعاون العسكري والتقني مع الدول الغربية بدلاً من العلاقات الروسية- الكازاخستانية الطويلة الأمد، المبنية على مبدأ “صداقة الشعوب”، خصوصاً مع تبنيها معياراً تقول موسكو إنّ أستانا تخفيه ولا تعلن عنه، ويقوم على تراتبية المصالح والاهتمامات السياسية والاقتصادية لكازاخستان، وذلك وفق الترتيب التالي:
أولاً، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ثانياً، الصين ودول منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ثالثاً، دول الشرق الأوسط، ثم روسيا (في أسفل الاهتمامات).
هذا التصنيف بدا جلياً في تصريحات وزير الخارجية الكازخستاني في طوكيو، يوم أعلن رغبة بلاده في تطوير العلاقات مع كل من اليابان والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتأكيده عدم انضمام بلاده إلى العقوبات المفروضة على روسيا، لكن في نفس الوقت، أعلن صراحة عن التزام أستانا بمبدأ رفض عدم استخدام مختلف المؤسسات للالتفاف على العقوبات (سمّاها الإجراءات التقييدية وليس عقوبات).
وبناء على هذا، يمكن القول إن العلاقة بين كازاخستان وروسيا ليست في أفضل أحوالها، وإنها تمرّ بشدّ وجذب غير واضح ما هي مآلاته. ففيما تحاول روسيا الحفاظ على النمط القديم من العلاقة مع جارتها، تحاول كازاخستان أن ترسم لنفسها مساراً جديداً من العلاقات مع الدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة، لكنّها في الوقت نفسه تعجز حتى الآن في عملية فصل الملفات السياسية عن تلك بالاقتصاد. وبما أنّ الاقتصاد والسياسة توأمان، فإنّ محاولة الفصل بينهما ربّما تكون أمراً شبه مستحيل بالفعل.