وليد البخاري لن يكون بديلاً عن سعد الحريري
“ليبانون ديبايت” – قاسم يوسف
بالتزامن مع الانتفاضة المباغتة والمدوّية لضلع وازن من أضلاع العشائر العربية في البقاع، حضرت في ذاكرتي معادلة عقاب صقر الشهيرة: إذا هوى سعد الحريري فلن تُعقد للسنّة راية في لبنان.
صحيحٌ أن الإشكالية لا تتخطى مجرد سوء التنسيق والتوضيح بين السفير والعشائر، وأن الأمور عادت وسلكت طريقها الطبيعي نحو المعالجة الحكيمة والهادئة، لكن الأصح أن ما قيل قد قيل، وأن قرح القلوب ليست تُظهره إلا لحظاتٌ مماثلة، تمامًا كما لو أن العقل الجماعي الذي صنع لحظة الانفجار الجماهيري تلك، انطوى على ما يشبه التفاهم الفطري العميق، وهو تفاهمٌ لامس حدود الانتقال الصاروخي من ارفع درجات الاحتفاء والاحتفال بالضيف وما يُمثل، إلى أعنف مشهديات القدح والذم والتحقير.
هذه النتيجة الموضعية تُضاف إلى خلاصة شاملة أفرزتها الانتخابات النيابية، مفادها أن أحدًا لم يستطع أن يعقد راية للسنّة منذ هوى سعد الحريري أو اعتكف، وأن كل الذين بادروا إلى لعب الأدوار الكبرى على مساحة الديمغرافيا السنية عادوا كمن يعود إلى مرتعه خالي الوفاض، رغم الاستحضار الهائل لكل مقومات الانتصار الأكيد، بدءًا من استعادة الخطاب السياسي الحاد بوجه حزب الله ومن يلتحق في ركبه، مرورًا بالحضور العربي المباشر، والأرضية الخصبة، والعامل المادي والمعنوي والسياسي والاجتماعي، وصولاً إلى ارتصاف ملحوظ لكوكبة لا يُستهان بها من الشخصيات السنية الحاضرة والمؤثرة، ناهيك بطبيعة الحال عن تحالفات وطنية ناجزة مع أقطاب وأحزاب لا يُشق لها غبار، لكن نتيجة ذلك كله كانت هزيمة هائلة ومدوية.
من العاصمة بيروت، إلى طرابلس وعكار وصيدا واقليم الخروب، وصولاً إلى عرسال والبقاعين الغربي والأوسط، أدار فؤاد السنيورة كل محركاته، وعمل بطاقته الانتاجية القصوى، إلى جانب السفير السعودي والسفراء العرب ودار الفتوى ومجموعة كبيرة من قدامى تيار المستقبل ومن الفعاليات والمفاتيح الأساسية في كل المناطق، لكن نتائج صناديق الاقتراع جاءت على غير ما يشتهون، بل على غير ما يتوقعون، حتى في أكثر السيناريوات قبحًا وبشاعة، حيث تبيّن أن هؤلاء كلهم، بقضهم وقضيضهم، لم يستطيعوا أن يحجزوا مقعدًا واحدًا في بيروت، وهذه لعمري كبيرة من الكبائر، بل فضيحةٌ لا توازيها فضيحة.
الأنكى من ذلك كله، تمثل في حصد المقربين والمحسوبين على سعد الحريري لكتلة نيابية معتبرة، بينما كان زعيمهم يتمدد على أريكته الوثيرة في كوكب الشيخ زايد، ولو شاء أن يفعل بخلاف ما فعل، لتدحرجت هامات وتكشّفت أوهامٌ واسودت وجوه.
هذه ليست براءة ذمة للرجل، وأنا معه على الاختلاف الذي تعرفون، وليس تحاملًا أو تنمرًا على هذا أو ذاك، بل مجرد توصيف حقيقي وواقعي ومجرد لمعركة ما وضعت رحاها إلا فوق هزيمة تشبه الفجيعة، ولو كان لنا أن نسلك درب الانصاف، لقلنا إن سعد الحريري ربح الحرب دون أن ينبس ببنت شفة، وإن كل المشاريع التي حاولت أن ترث مشروعيته السياسية والشعبية والوطنية ارتطمت بالأرض على نحو عنيف، وقد حُفرت في وجوه أصحابها ندبات الارتطام.
لكن بعيدًا من هذا كله. ثمة رايةٌ قد هوّت. وهي رايةٌ عُقدت فوق دم رفيق الحريري. ثم استحالت عصفًا ترتعد له مشاريعٌ وأحزابٌ وقامات. وقد هالهم جميعهم وقتذاك أن يختبروا القدرة الفائقة لأهل العدد وأهل المدد، أولئك الذين لا يموت لهم ميتٌ ولا تلين لهم إرادة.
الراية هوّت وهوى معها كل شيء، ولن يستطيع وليد البخاري ولا غيره أن يكبح جماح هذا الانزلاق الرهيب، ولا أن يحمل السنة على كتفيه، وهم اساسًا ما عادوا يحسنون الركب أو يدركون الارتصاف. تلك أيام قد خلت. لكنها ستظل قطعًا في الذاكرة كواحدة من ألمع وأجود التجارب الوطنية في تاريخهم المخضّب بالعذابات. وستظل أيضًا في أرشيفهم العميق. هناك حيث تبكي البواكي على عبقريتهم الوطنية الخالصة التي ماتت ودُفنت. وحل مكانها ما تيّسر من عبث وارتجال وجنون.
قيل لنا ذات يوم من ربيع الثورة اللبنانية: دعوا العشب ينبت، وقد تركناه، ثم زرعناه وسقيناه ورعيناه، فإذ بنا أمام صحراءٌ قاحلة، لا عشب فيها ولا حديقة ولا ماء. جُل ما شهدناه كان نشازًا، وأخشى ما أخشاه أن تستحيل الساحة غدًا، أو ذاك الذي يليه، مجرد أزقة يتقاسمها شذاذ الآفاق أو الذئاب المنفردة، أما من يظن أن وليد البخاري قادرٌ على ملأ هذا الفراغ، أو على أن يكون بديلاً عن سعد الحريري، فهو قطعًا واهمٌ ومحدودٌ ومشتبه.