تابعوا قناتنا على التلغرام
عربي ودولي

طريق الحرير طموحٌ “صيني” ، وتخوُّف “أمريكي”…!

في القرن الثاني قبل الميلاد، بدأ العصر الذهبي لطريق الحرير الذي يَربط العالَم بشبكةِ من الطُرق التجارية من الصين، مروراً بآسيا الوسطى والهند وفارس والعراق وبلاد الشام والأناضول ومصر وصولاً للقارة الأوروبية.
ولأنَّ الحرير كان أهم سلعة يتمُّ نَقلها عبر شبكة الطرق هذه؛ فقد تمَّ تسميته بـ”طريق الحرير”، ولكنَّ الحرير كان سِلعة من ضمن مجموعة سلع تُنتجها الصين وتغزو بها العالم بأكمله مثل: الصناعات الحديدية والنُّحاس والشاي والخزف، وهناك أيضًا الورق والبارود اللذَين غيَّرا شكل الحضارة تماماً، وغيرُها من السلع التجارية.
طريقُ الحرير كان مَعبَرًا مُهمًا لإنتشار الأفكار والأديان والثقافات بين الشعوب، وأيضاً كان ممرّاً رئيساً للغُزاة والفاتحين على مرِّ التاريخ مثل: الإسكندر الأكبر وقُتيبة بن مُسلم وجنكيز خان وتيمورلنك وغيرهم، كما كان هناك طريق حرير بحريّ يبدأ من سواحل الصين وعبر المحيط الهندي، مروراً بالهند واليمن وسواحل أفريقيا.
طريقُ الحرير جعل الصين أكبر إقتصاد في العالم لمدة 2000 سنة تقريباً، إلى أنْ تَسلَّمَت الولايات المتحدة اللقب من الصين في أواخر القرن التاسع عشر.
والآن، في القرن الحادي والعشرين تُحاول الصين إحياء طريق الحرير، وإستعادة أمجاد الماضي؛ فهل تَستطيع الصين أنْ تَستعيد الصدارة من الولايات المتحدة الأمريكية؟

من الواضح أنَّ مبادرة “الحزام والطريق” هي محاولة لتوسيع النفوذ السياسي للصين، وإيجاد أسواق للصادرات الصينية في أضخم مشروع في تاريخ البشرية، إننا نتحدث هنا عن مشروع تُقارب تكلفته حوالي 8 ترليون دولار؛
مَن منّا يتخيل هذا الرقم؟ إنه مشروع هائل! يضم 147 دولة، و 30 منظمة دولية.
في سبتمبر من عام 2013 ، أعلن الرئيس الصيني “شي جين بينغ” عن إطلاق مُبادرة الحزام والطريق، المبادرة هي عبارة عن طَريقَين: بحري وبري.
الطريق البري، يربط من الصين وصولاً لأوروبا، مروراً بوسط جنوب آسيا والشرق الأوسط؛ مما يعني ربط العالَم القديم بأكمله.
أما البحري، فيربط الصين بجنوب شرق آسيا والهند والخليج العربي، ومعهم أفريقيا وأوروبا وهذا عن طريق البحر، ومن المتوقع إنتهاء المشروع في عام 2049، وهذا العام سيكون عام الإحتفال بالذكرة المئوية لجمهورية الصين الشعبية والتي أسَّسها “ماو تسي تونغ” عام 1949.
فلنقف قليلاً مع توقيت ومكان الإعلان عن المبادرة:
الإعلان يأتي بعد 6 أشهر من تولّي “شي جين بينغ” رئاسة الصين، وهذا يؤكد أنَّ ما تُفكر به الصين للوصول إلى القمة العالمية في الذكرى المئوية، أو قبلها أيضاً – وهذا حقٌّ لهم – يشغل تفكيرهم وطموحهم دائمًا.
أما فيما يتعلق بمكان الإعلان، فقد كان في “آستانا” عاصمة كازاخستان؛ الدولة التي سوف تكون محطة رئيسية في طريق الحرير البري.
وتَجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي تُحاول بها الصين إعادة طريق الحرير القديم، وكانت أقرب تلك المحاولات في أيار من عام 1996.
بحضور وفود من 40 دولة في إيران للإعلان عن طريق الحرير الجديد، والذي يربط ما بين الصين إلى البحر المتوسط بشبكة سكك حديدية، ووصف رئيس الوزراء الصيني “بينغ” المشروع بأنه طريق الحرير للقرن الحادي والعشرين والمحاولات المتكررة؛ مما يؤكد لنا مدى أهمية الطريق بالنسبة للصين وإقتصادها، كما سنوضح فيما يلي:
ما أهمية المشروع بالنسبة للصين؟
إنَّ مبادرة “الحزام والطريق” تحقق للصين مكاسب إستراتيجية مهولة؛ أولاً: الطريق سيعالج مشكلة التنمية في الصين؛ ونعني به شرق الصين المتطور عن غربه الذي مازال يعتمد على الزراعة، سيعمل مشروع الطريق على موازنة التنمية بين أجزاء الصين كلها، وتصبح المناطق جميعها متساوية.
ثانيًا: على الصعيد الخارجي، الطريق سيمنح الصين نفوذاً دولياً على صعيد العالَم، وخاصة من خلال تطبيق دبلوماسية “فخّ الديون” التي من خلالها تَستطيع الصين مُمارسة الضغوط على الدول التي تنضمُّ لطريق الحرير لتُصبح من أهمِّ الداعمين للصين على الصعيد الدولي؛ وهذا ما أكده فيليب لوكور، كبير الباحثين في جامعة هارفارد.
وهناك دول كثيرة وافقَت على القروض الصينية مثل: سيريلانكا -كينيا -باكستان وغيرها، ودول أخرى رفضَت المبدأ هذا مثل: مصر- النيبال- إسواتيني وغيرها.
كما أنَّ اليونان – والتي تُعدُّ أهم محطات طريق الحرير – إِعترضَت عام 2018 على إدانة الإتحاد الأوروبي لسجل الصين في مجال حقوق الإنسان، ومن الطبيعي أنْ تبحث الصين عن مصلحتها التي تراها، ومن الطبيعي أيضًا أنْ تجد منافسين دوليين سيواجهونها ويعملون جاهدين في شتى السُبل لضرب مفاصل طريق الحرير البري والبحري؛ فما دام هناك مصلحة لدولةٍ ما سنجدها تتعارض مع مصالح دول أُخرى، وقد يتصاعد ذلك التَعارض حتى يصل لما يُسمى بالحرب الباردة؛ كهذه الحرب الباردة الجديدة بين الصين ومنافسيها على الصعيد الدولي.
أمر بديهيّ أنْ تتغيَّر الحكوماتُ في كلِّ مكان بالعالم، ولكن من الملاحَظ أنَّ تغيُرات الحكومات في الفترة الأخيرة – تحديداً من آب عام 2021 إلى آب عام 2022 – يَجمع بينها أمران؛ الأول: أنَّ تلك الدول هي محطات مهمة في طريق الحرير، والثاني: أنَّ الحكومات الجديدة لديها مشاكل مع الصين. ولا نَحتاج للتذكِير بأنَّ تِكرار المُصادفات ينفي عنها صفة المُصادفات.
منذ آب 2021 إلى يومنا هذا مرَّ عامٌ تقريباً ، بدايةً من الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان والذي تسبَّب بحالة من عدم الإستقرار، وأصبحت أفغانستان مصدر توتُّر وإضطرابات في منطقة إستراتيجية في عمق آسيا في قلب طريق الحرير البري، وبعدها بعدة أشهر في كانون الثاني من عام 2022 بدأت مظاهرات وإحتجاجات في كازاخستان، الدولة التي أَعلن منها الرئيس الصيني عن مبادرة “الحزام والطريق”، وتلك المظاهرات كانت كبيرة لدرجة أنها لم تنتهِ إلا بعد تدخُّل جيوش منظمة معاهدة الأمن الجماعي CSTO بزعامة روسيا، وبعدها بشهر تقريبًا بدأت الأزمة الروسية الأوكرانية، وكُلنا يُدرك موقع أوكرانيا الإستراتيجي في تقاطُع طريق الحرير البري والبحري؛ ونَتج عن تلك الأزمة إصابة طريق الحرير البري الذي يصل لأوروبا بشبه إنقطاع تامٍّ.
وفي نيسان من عام 2022 حَصَل في باكستان تغيير سياسي غير متوقع، عندما سحب البرلمان الثقة من رئيس الوزراء “عمران خان” والمعروف بعلاقتِه الوثيقة بكلٍّ من روسيا والصين، وعندها إتَّهم “عمران خان” الولايات المتحدة الأمريكية بأنها السبب بإبعاده عن السلطة، خصوصاً مع إنتخاب “شهباز شريف” زعيم المعارضة الموالية للغرب والذي كان من أُولى قراراته رفض القروض الصينية، وأنَّ باكستان محطة رئيسية ومركز عبور إستراتيجي لأنها تملك ميناء “جوادر” الذي أنفقَت الصين عليه 74 مليار دولار بهدف تطويره، وهو الميناء الذي يتقاطع عنده طريق الحَرير البري والبحري.
إنَّ طريق الحرير البري يبدأ من غرب الصين، تحديداً مقاطعة “شينغ يانغ”، ويقطع باكستان كاملة بالعرض، والطريق البحري يبدأ من “هامبانتوتا” Hambantota Port في سيرلانكا ويُعرف أيضاً بميناء ماجابورا ماهندا راجاباكشا.
بالمناسبة، في أيار من عام 2022 أعلنَت سيرلانكا فشلها في تسديد ديونها الخارجية والتي وصلَت لأكثر من 45 مليار دولار، منها 8 مليارات للصين، وقبلها – وتحديداً في العام 2017 – إضطرت سيرلانكا لتسليم ميناء هامبانتوتا الإستراتيجي للصين لمدة 99 سنة؛ وهذا بعدما فشلت بِسداد ديونها للشركات الصينية.
سيرلانكا دخلت نفقًا مُظلمًا مع تزايُد الإحتجاجات الشعبية، والتي تطوَّرَت إلى إقتحام المقر الرئاسي وإبعاد الرئيس السيرلانكي عن السلطة.
قامت سيرلانكا برهانات حمقاء من خلال الإستدانة من الصين، والأزمة الإقتصادية والسياسية التي تعيشها وهي بمثابة تحذير ودرس للدول الأُخرى التي يعزيها التقارب مع بكين، وهذا كلام ويليام برنز William Burns مدير CIA وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية. إلا أنَّ صحيفة Global times الصينية تتهم بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بأنها تستغل أزمة سيرلانكا لمصلحتها الخاصة أكثر من إهتمامها بمساعدة البلد فعليًا.

اليابان يحصل بها أحداث غير معتادة!
في 8 تموز من عام 2022 تمَّ إختيار رئيس الوزراء الياباني السابق “شينزو آبي”، وكان من أهم الشخصيات السياسية اليابانية، وهو صاحب أطول فترة كرئيس وزراء من بعد الحرب العالمية الثانية، وإشتُهر آبي بالقومية اليمينية ولم يعتذر عن الغزو الياباني للصين، وكان يطمح لتأسيس جيش ياباني قوي؛ مما أزعج الصين من مواقفه المتشددة، وهذا يظهر بوضوح في ردود الأفعال الشعبية الصينية بعد حادثة إغتيال “آبي” رغم محاولات الحكومة الصينية منع تلك المظاهر.
وإنَّ حادثة الإغتيال غير المُعتادة في اليابان، إلى جانب التوقيت الحساس تطرح ألغازاً كثيرة حول أسباب إغتيال آبي، وليس فقط الأسباب، بل النتائج التي تؤثر في السياسة اليابانية والإقليمية في منطقة ملتهبة فعلياً، وهي منطقة بحر الصين الجنوبي.
البعض يرى أنَّ الإغتيال ممكن أنْ يكون لأسباب شخصية بحتة، وهذا ما تؤكده التحقيقات الرسمية للشرطة اليابانية، لكنه يمكن أنْ يكون أيضاً لمصلحة أحد اللاعبين الكبار في المنطقة.
الصين يُمكنها الإستفادة من الإغتيال من خلال إزاحة أحد أكبر الشخصيات المتشددة في اليابان “آبي”، أما الولايات المتحدة الأمريكية فسوف تستفيد من ناحية أخرى، من خلال حشد الرأي العام الياباني المتعاطف لدعم خُطط أكبر تشدُّداً مع الصين، وتحقيق حلم “آبي” بتعديل الدستور السلمي لليابان، وإمتلاك جيش عسكري يواجه الصين خاصةً مع فوز حزبه بالإنتخابات بعد وفاته بيومَين، وما يؤكد ذلك سياسة الحكومة الجديدة التي إتخذت قراراتٍ تُهدد أمن الصين من وجهة نظر الصينيين؛ منها نشْر ألف صاروخ (أرض-بحر) على جزر اليابان، وزيادة مداها حتى تصل لسواحل الصين.
وعلى الرغم من أنَّ اليابان ليست دولة على طريق الحرير، لكن الحدث الدراماتيكي مؤثر جداً بالنسبة للصين، وهذا لأنَّ اليابان من أهم المنافسين والأعداء التقليديين للصين، وعضو مهم في التحالف الأمني الرباعي، حلف (كواد،، Quad) الذي يضم اليابان -أستراليا -الهند بزعامة أمريكا لمحاصرة الصين في منطقة المحيطَين الهادي والهندي.

ميناء Mombasa مومباسا الذي يقع في ثاني أكبر مدينة والميناء الرئيسي في كينينا الأفريقية ، والمحطة الإستراتيجية التي تجمع كلَّ الطريق البحري قبل إيصاله لأوروبا عبر قناة السويس.
ماذا حصل في كينيا؟
إنَّ ما حصل في كينيا هو نفسه ما حصل في سيرلانكا؛ فقد وصلَت ديون كينيا لأكثر من 70 مليار دولار، وإندلعَت إحتجاجات شعبية وغليان في ذروة حملات الإنتخابات الرئاسية، وهذا ما إستغله المرشح للرئاسة “وليام روتو William Ruto” عندما تعهَّد في حزيران من العام 2022 بإلغاء الديون الخارجية، كما تعهَّد بطرد الصينيين الذين يحصلون على وظائف الكينيين في بلدهم، وصرَّح قائلًا: “لا تقلقوا بشأن الأجانب الذين يُمارسون هذه الأعمال، لدينا ما يكفي من الطائرات لترحيلهم!”
وبالفعل، في آب من عام 2022 فاز روتو بالإنتخابات؛ مما شكَّل ضربة مُوجعة للمصالح الصينية ومشروعها الطموح “الحزام والطريق”.
إنَّ محطة طريق الحرير الصيني الجديد، إضافةً لما حصل في تايوان والعراق ودول البلطيق التي إنسحبَت من إتفاقية التعاون مع الصين، وأحداث أخرى كثيرة؛ كلُّ ذلك يؤكد أنَّ هناك حربًا باردة وساخنة بين الصين وأمريكا.
بالنهاية هل سنشهد طريق حرير صيني تستطيع من خلاله السيطرة على الإقتصاد والأسواق التجارية العالمية وتتحول لدولة حاكمة بأمر العالم أم ستنجح العوائق والإنقلابات والتغيرات السياسية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الدول التي يمر بها مشروع الحزام والطريق من إنهاء الحلم الصيني بالتوسع والتمدد والسيطرة والعودة لحدوده الطبيعية والجغرافية؟!….

خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل.
عضو نقابة الصحافة البولندية.

Nour
Author: Nour

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى