رئيس للجمهورية “على الغاز” !
لا أفق للمواجهة السياسية الجارية حول موقعي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. ومن الواضح أنّ بعض القوى يماطل حتى انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، بهدف التخلّص من ضغط «التيار الوطني الحر»، فتصبح الاختيارات مفتوحة. لكن نجاح هذه الخطة ليس مضموناً.
منطقياً، لن يتخلّى «حزب الله» عن موقع رئيس الجمهورية. فلا شيء يدفعه إلى القيام بذلك مجاناً، وهو الذي قاتل حتى إيصال حليفه الرئيس ميشال عون إلى هذا الموقع عام 2016، وأمضى 6 سنوات «براحة بال» كاملة.
يريد «الحزب» استمرار نهج عون، في ما يتعلق بالمسائل الاستراتيجية، أي بالقرارات السياسية والأمنية والاقتصادية والقضائية الأساسية. فهذا النهج مطمْئن، وقد شكّل ضماناً لمواجهة أي ثغرة في موقع رئاسة الحكومة، خصوصاً حين كان الرئيس سعد الحريري يتناغم مع اتجاهات الولايات المتحدة أو فرنسا أو المملكة العربية السعودية.
وبالتأكيد، لن يتخلّى فريق 8 آذار، على تنوّع توجّهاته الداخلية، لا عن موقع رئاسة الجمهورية، حيث الخيار بين عون وفرنجية، ولا حتى عن موقع رئاسة الحكومة حيث يبدو الأمر أسهل، لأنّ غالبية الشخصيات السنّية المرشحة فعلاً لتولّي الموقع تصنَّف في الخط الوسطي، لا في خط المواجهة مع «حزب الله» وحلفائه.
وحتى الاجتماع السنّي الذي دعت إليه دار الفتوى، والذي يُراد منه خلق مرجعية للطائفة على أبواب استحقاقات داهمة، لا يخرج عن هذا التصنيف. ولو كان الحريري موجوداً اليوم لاتخذ على الأرجح تموضعاً قريباً من تموضع الرئيس نجيب ميقاتي.
وفي كثير من التجارب، على مدى سنوات، بما في ذلك تجربة 7 أيار 2008، أظهر السنَّة ميلهم إلى الخيارات الوسطية، فهم لا يقطعون الخيط الرفيع المتبقي هنا أو هناك، ولا يختارون التحدّي في مواجهة هذا المحور أو ذاك. وهذه الميزة يعتبرها البعض نقطة ضعفٍ في سلوك القيادات السنّية، لكنها أيضاً نقطة قوة.
إذاً، وعلى رغم الحراك السنّي المستجد برعاية دار الفتوى، فإنّ محور «حزب الله» وحلفائه لا يخشى وصول شخصية «مزعجة» إلى موقع رئاسة الحكومة. لكنه في المقابل يحاذر وصول شخصية مارونية «متعِبة» إلى موقع رئاسة الجمهورية. والتجارب في هذا المجال معبّرة.
ولذلك، لا يحبذ هذا الفريق وصول شخصية مارونية إلى موقع رئاسة الجمهورية إلّا من داخل خطّه السياسي «الموثوق فيه»، أي المنخرط أساساً في المعركة.
وواقعياً، ليست هناك شخصيات مارونية ينطبق عليها هذا التصنيف سوى اثنين: جبران باسيل وسليمان فرنجية أو مَن «ينوب عنهما» أو يختاره أحدهما برضاه. أي الوكيل عنهما إذا تعذَّر وصول الأصيل لأي سبب كان.
إذاً، إذا تُرِك الأمر لمحور 8 آذار، فسيُبقي على معادلة السلطة القائمة حالياً: رئيسٌ للجمهورية من 8 آذار، رئيس للمجلس النيابي من هذا المحور أيضاً، ورئيس «وسطي» للحكومة، بل يقف على مسافة أقرب إلى 8 آذار.
وعملياً، من مصلحة «حزب الله» أن يحتفظ رئيس الحكومة بمستوى مقبول من العلاقات مع القوى الغربية والخليجيين العرب، لأنّ ذلك يمنحه القدرة على مناورة يحتاج إليها «الحزب». فالرصيد الذي كان يمتلكه الحريري الأب ثم الحريري الإبن، وميقاتي اليوم، مع الأميركيين والفرنسيين والخليجيين، أتاح الحصول على عشرات المليارات من الدولارات استفادت منها السلطة، وتحديداً محور 8 آذار الذي يرعاها. وهذا الرصيد يتكفَّل اليوم بفتح خطوط التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
لذلك، لن تتخلّى قوى 8 آذار عن موقع رئاسة الجمهورية. وهذا الأمر يريح عون وباسيل اللذين يعتبران أنّ «التيار الوطني الحر» يبقى الحليف المسيحي الأفضل لـ»حزب الله»، وله الأفضلية في هذا الموقع.
وهذا الأمر هو الذي يدفع ببعض القوى الغربية والعربية إلى لعب الورقة السنّية، أي ورقة رئاسة الحكومة، لعلّ ذلك يعيد التوازن الذي كان قائماً في بعض المراحل: رئيسٌ للجمهورية ينتمي إلى محور 8 آذار يقابله رئيس للحكومة بعيد من هذا المحور.
ولكن، هل يجد «الحزب» نفسه أمام ضرورة التوصل إلى تسوية، فيقتنع بالوسطي في رئاسة الجمهورية كما في رئاسة الحكومة؟
حتى اليوم، لا شيء يجبر «حزب الله» وحلفاءه على المقايضة. فهو يمسك بزمام الأمور جيداً. ولكن، ربما يطرأ تطوُّر واحد يغريه بالموافقة على تسوية من هذا النوع، وهو التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود وبدء استثمار الغاز بعشرات المليارات من الدولارات التي يحتاج إليها البلد ليعود إلى الحياة.
قد يفرض هذا الاتفاق أَن لا تكون تركيبة السلطة «نافرة» سياسياً، وأن تكون مؤهّلة لمخاطبة الغربيين والعرب من أجل تسهيل عملية الانتعاش الاقتصادي. فالرئيس الوسطي أو الخبير بشؤون المال والاقتصاد أو حتى الآتي من قيادة الجيش، قد يكون الأنسب لإدارة هذه المرحلة الحساسة من الانتعاش الاقتصادي.
وبالتأكيد، يمتلك «حزب الله» رصيداً وعلاقات طيبة مع الأوساط المارونية المعنية كلها. لكن اختيار شخصية ليست من صميم المعسكر الحليف يبقى خياراً ثانياً لا خياراً أولَ بالنسبة إليه، تجّنباً لتكرار تجربة العماد ميشال سليمان.
ولذلك، سيكون ملف الترسيم والغاز حاسماً في المعركة السياسية الدائرة داخلياً، وعلى أساسه سيتقرَّر مستقبل رئاسة الجمهورية ومصير الحكومة. فمن الوارد أن يتمّ التوصل إلى تسوية سياسية واقتصادية شاملة، وإلّا فمواصلة الانزلاق إلى قعر الهاوية.