روسيا القيصرية والنقاشات المحرمة في السرديات الغربية
سامر زريق نقلاً عن “إيلاف”
بالرغم من كل المحاولات التي بذلها الغرب على مدار السنوات الفائتة، وعلى رأسه أميركا، لتقويض شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتحطيم الهالة “القيصرية” التي يتمتع بها، وجعله محط تشكيك المواطنين الروس، والتي سخر لها إمكانياته الإعلامية والثقافية الهائلة، إلا أنه فشل على مدى سنوات، في إيجاد أو خلق أي نموذج أو حالة معارضة روسية حقيقية، سواء في الداخل أم في الخارج.
وتعكس نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية التي أجريت منذ أيام قليلة فشل كل الرهانات الغربية. فمع أنه أنفق جهداً هائلاً في الترويج لسرديات تحض الشعب الروسي للإحجام عن المشاركة في العملية الانتخابية، إلا أن النتيجة أتت على النقيض من ذلك، حيث كانت نسب المشاركة هي الأعلى في تاريخ الانتخابات الرئاسية، وبلغت 77.5 بالمئة.
محطة مفصلية
تمثل الانتخابات الرئاسية الروسية محطة مفصلية في تاريخ روسيا الحديث. إذ أنها كانت بمثابة استفتاء على سياسات بوتين، والمسار الذي اتبعه لمواجهة الغرب في مساعيه لعزل بلاده، وإصراره على كسر الهيمنة الأميركية، والخروج من نظام القطب الواحد، نحو عالم جديد متعدد الأقطاب. أكثر من 87 مليون ناخب وناخبة أدلوا بأصواتهم من مختلف الجمهوريات ذات الحكم الذاتي والأقاليم والمقاطعات المنضوية في الاتحاد الروسي، بينها جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الحديثتي العهد في الاتحاد، وكذلك مقاطعتي خيرسون وزابورجيا.
ينبغي التمعن ملياً في هذا الرقم ومدلولاته ومعانيه على الصعيد السياسي والتاريخي وحتى الثقافي. ذلك أن أكثر من 87 بالمئة منهم منحوا أصواتهم لبوتين ليس كرئيس للاتحاد الروسي فحسب، بل كـ”قيصر جديد” لروسيا “العظيمة”. فاستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية يعد حجر الزاوية في عملية تصويت الروس لبوتين. فالإرث الإمبراطوري يشغل حيزاً واسعاً في الذاكرة الجمعية للشعب الروسي، كما كل شعوب الدول التي كان لها صولات وجولات في التاريخ، وتأثير في القرار العالمي. وهذه الخاصية بالتحديد هي التي أهملتها تماماً كل السرديات الغربية. بالطبع لا يوجد نظام حكم ليس لديه معارضين. لكن ما سعى الغرب الى إسقاطه وتجاوزه هو أن بوتين يمثل حقيقة رغبة النخب الروسية في أن تكون بلادهم قطباً عالمياً شريكاً في القرار العالمي على قدم المساواة، وليس ملحقاً أو تابعاً.
هذه القناعة بالذات، هي التي تدفع بكل من لديهم تحفظات واعتراضات على الرئيس الروسي وسياساته، إلى تجاوزها فقط من أجل “روسيا العظيمة”، الهدف الذي يرون أن بوتين نجح في الوصول اليه. ليس تفصيلاً أن يكون حكم بوتين، الذي من المتوقع أن يستمر حتى عام 2030، وربّما حتى العام 2036، هو الأطول حتى من حكم الزعيم السوفياتي الأكثر شهرة جوزيف ستالين، وكذلك أطول من حكم الإمبراطورة كاترين أرملة بطرس الثالث الملقبة بـ”العظيمة”، والتي تعد من أبرز وأهم حكام روسيا عبر التاريخ. وهذا ما يجعل من بوتين “قيصراً” حقيقياً.
هل يحاكم الغرب خيارات الشعوب؟
صبت كل مواقف النخب السياسية الغربية، قبل وأثناء وبعد الانتخابات الرئاسية الروسية، في إطار التقليل من شأنها، وأنه لا توجد منافسة حقيقية فيها. كذلك سعت المقالات والتحليلات في وسائل الإعلام الغربية، ولا سيما المؤثرة بينها، الى تصويرها كأنها انتخابات على شاكلة تلك التي تجرى في الأنظمة التوتاليتارية، والتي تفضي إلى نتيجة 99.99 بالمئة لصالح الزعيم الواحد الأوحد. وهذا بالطبع غير صحيح.
لكن، والحال كذلك، لماذا كل هذا الاهتمام الغربي بها؟ لأن الغرب سعى بكل الإمكانيات التي يملكها في صناعة وترويج السرديات إلى التأثير العملية الانتخابية، وتخفيض نسب المشاركة، بهدف الطعن في شرعية بوتين، وتصويره بأنه دكتاتور يتربع على عرش الاتحاد الروسي بالرغم من أنف شعبه. عشرات التقارير في صحف بارزة مثل “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” وسواها من الصحف البريطانية والفرنسية، وكذلك الأوراق البحثية في “معهد واشنطن” ومراكز بحثية أخرى، كلها صبّت في إطار دعم وترويج هذه السرديات، إلا أن نتائج الانتخابات دحضتها وأثبتت زيفها.
مع ذلك، ثمة العديد من التساؤلات التي يتوجب إثارتها على هامش ترويج هذه الصورة، وكذلك إثارة النقاش حول القيم المزعومة التي ما انفكت الدول الغربية عن الترويج لها. فلماذا يحاكم الشعب الروسي على خياراته الانتخابية، والتي تعكس حريته وخياراته السياسية العميقة؟
أبعد من ذلك، لماذا كان الغرب مرحباً ببوتين ويعتبره إصلاحياً منذ انتخابه رئيساً للمرة الأولى عام 2000 حتى اندلاع الحرب في أوكرانيا؟ ولماذا سعى الزعماء الغربيين إلى صداقته لسنوات خلت ما دام أنه “دكتاتور” وفق سردياتهم المحدثة؟ ببساطة لأن الغرب وعلى رأسه أميركا يريد روسيا دولة ضعيفة. وهذا ما أشار إليه بوتين في مقابلته مع الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون، والتي أثارت جدلاً واسعاً في أميركا بلغ أعتاب البيت الأبيض.
التساؤلات المحرمة
من النقاط الشديدة الأهمية التي أثارها بوتين في تلك المقابلة، هي سياسة اليد الممدودة تجاه أميركا وسائر الدول الغربية الكبرى، التي اتبعها لسنوات طويلة، وصولاً حتى إلى طلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. فيما قابل الغرب هذه السياسة بالتجاهل التام، ورفض التعاون مع روسيا، والسعي الدائم إلى زعزعة أمنها واستقرارها، ونقض الاتفاقيات المبرمة معها.
لماذا يتم تصوير بوتين على أنه “دكتاتور” يشن حرباً غير مبررة؟ ولماذا كان على بوتين القبول بنشر صواريخ وأسلحة متطورة على حدود بلاده؟ هل هناك أيّ دولة غربية كبرى يمكن أن تقبل بذلك؟ هل هناك من يسأل أميركا عما فعلته على بعد آلاف الأميال عن حدودها في العراق وأفغانستان؟ وما سر توقيت الهجوم الإرهابي على موسكو، الذي تبناه تنظيم “داعش – خراسان”، والذي سرعان ما استغلته الآلة الإعلامية الغربية لسرقة الأضواء من الانتصار الانتخابي الكاسح الذي حققه بوتين؟
هل أصبح العراق ديموقراطياً بعدما دمرت أميركا نظامه وتاريخه وحضارته؟ وما هو حال أفغانستان اليوم؟ ها هي أميركا نفسها التي شنت حرباً على حركة طالبان تقوم بتسليمها الحكم مرة جديدة، وتُبرم معها الصفقة تلو الأخرى. وفي المقلب الأوروبي، هل هناك من يسائل فرنسا عن حملتها الأفريقية؟ ماذا كان تأثيرها؟ وهل قضة على التنظيمات الإرهابية هناك؟
بالطبع كل هذه الأسئلة هي من المحرمات في السرديات الغربية. فقط الرئيس الروسي، ومعه الصين والعرب، هم “الدمويون” و”المتوحشون” في نظر الغرب، في حين أن دول الغرب دعاة سلام ومساواة وديموقراطية، وحقوق إنسان نرى حقيقتها اليوم بوضوح جلي في قطاع غزة.