“المسلمون”.. “حصان” بوتين في حربه على أوروبا
نبيل الجبيلي نقلاً عن “أساس ميديا”
تولي روسيا اهتماماً خاصاً بالمسلمين. ظهر هذا الاهتمام أخيراً مع بداية الحرب في أوكرانيا في شباط 2022. وكان مسلمو الشيشان ودول القوقاز في مقدَّم المشاركين في الحرب، خصوصاً جماعة الزعيم الشيشاني رمضان قاديروف الذي بدا وكأنّه الناطق باسم الكرملين في أكثر من محطّة.
تاريخياً، مرّت علاقة مسلمي روسيا بكثير من المطبّات. تراجعت لعقود، ثمّ أخذت بالتحسّن إلى أن وصلت إلى ذروتها اليوم، مع تحوّل مسلمي منطقة القوقاز إلى “حصان” بوتين نحو الدول العربية والعالم الإسلامي.
“عدوّ” الأمس.. صديق اليوم
يعود تحوُّل العلاقة بين الكرملين والمسلمين الروس إلى أسباب عدّة. فبينما تتوجّس موسكو من زعزعة استقرار القوقاز وتخشى أن تكون تلك البوّابة بؤرة إرهاب، وجد المسلمون في المصالحة مع الدولة المركزية الروسية مصلحة عليا في كفّة الدين والإسلام وازدهار الدعوة وزيادة عدد المسلمين.
دعمت روسيا الجمهوريات الإسلامية بميزانيّات كبيرة ومشاريع ضخمة، بعدما استدركت موسكو أنّ ما يُعطيه المسلم باللين لا يمكن أن يعطيه بالقسوة والإكراه. عمدت روسيا إلى المساواة بينهم وبين بقيّة الروس، فزرعت فيهم الانتماء إلى الوطن.
رأت روسيا في تعاليم الدين الإسلامي قيماً تحافظ على الروابط الأسرية، وترفض كلّ ما يخالف الطبيعة والعقل، وما ينتج عنه من شواذ ومثليّة يروِّج لهما الغرب.
هذا ما دفع السلطات الروسية إلى غضّ النظر عن كلّ ما يفعله المسلمون، ما عدا التطرّف والغلوّ والمسّ بأمن الدولة. فأعطى المسلمون عهداً جديداً لا ضررَ فيه، يمارسونه في شعائرهم من دون مشاكل، فحافظوا على العهد والتزموا لأنّهم لا يريدون أن يخسروا ما بنوه على مدى سنوات… وهذا ما أسّس لتحوُّل عدوّ الأمس إلى صديق اليوم.
ما عاد المسلمون الروس راغبين في افتعال المشاكل خوفاً من أن تتراجع مكتسباتهم. بل على العكس، باتوا يندمجون أكثر وأكثر من أجل الحصول على مزيد من الحقوق والمكتسبات.
مسلمو روسيا من أهل السُّنّة
ليس هذا الاهتمام الروسي وليد صدفة، بل له مبرّراته لدى القيادة الروسية، وبين تلك الأسباب والمبرّرات:
- المسلمون في روسيا هم بمنزلة “خزّان بشري” لـ”القومية” الروسية في مواجهة أوروبا التي تعاني من نقص الخصوبة وتراجع نسبة الولادات، بخلاف دول القوقاز. إضافة إلى بنية أهل القوقاز وصلابتهم، وهو ما يجعلهم مؤهّلين للقيام بالأعمال العسكرية القادرة على “إرهاب أعداء روسيا” بحيث يكونون سنداً في الجبهات.
- وجودهم على حدود أوروبا الشرقية (جورجيا) يجعلهم خطّ الدفاع الأول عن روسيا في حالات الحرب.
- تسترضي روسيا من خلالهم العالمين العربي والإسلامي، وهم وسيلة فعّالة للتقرّب منهما.
- للقيادة الروسية مصلحة في التقرّب من المجتمع الإسلامي الروسي وعدم تركه فريسة الجماعات المتطرّفة والإرهابية، واسترضاء معتنقي ديانة كبرى قابلة لأن تكون أكثريّة في المجتمع الروسي مستقبلاً.
- معظم مسلمي روسيا هم من أهل السُّنّة، وتحديداً من أتباع المذهبين الحنفي والشافعي. وفي روسيا لا يُعتبر الحضور الإسلامي مسألة ثانوية أو شأناً خاصّاً بدول أطراف الاتحاد الروسي.
- يمكن معاينة الحضور الإسلامي في قلب العاصمة الروسية موسكو. فهي غصّت بأكثر 100 ألف مصلٍّ في عيد الفطر. وتوجّه الرئيس الروسي بالمعايدة إلى المسلمين الروس قائلاً: “أنا حقّاً أحترم المسلمين. الإسلام يحترم العادات والتقاليد الأبوية ويرفض الشذوذ. تاريخ الأمّة الإسلامية مليء بالحسنات، والمسلمون الروس رجال رائعون. سنهتمّ بتعاليم الإسلام، وخصوصاً في المدارس.. أنا فلاديمير بوتين أقول لكلّ المسلمين: تهانينا بالعيد”.
روسيا والتقاليد الإسلاميّة
في موسكو تقدّم محلّات التسوّق الروسية المنتجات الحلال للمسلمين والعرب.
تخصّ الحكومة الروسية المسلمين كما بقية المواطنين الروس بمكافآت لكلّ زوجين يُرزقان بمولود. عند إنجاب الطفل الثاني تحصل والدة الطفل على مبلغ يُقدّر بنحو 600 ألف روبل (7,500 دولار)، وينال كلّ طفل من العائلات المحدودة الدخل مبلغاً شهرياً يصل إلى نحو 200 دولار حتى بلوغه سنّ الـ15 سنة.
العائلة المؤلّفة من 5 أشخاص، والتي أطفالها دون سنّ الـ15، يحصل ربّ العائلة على ما يقترب من ألف دولار شهرياً، إضافة إلى الحوافز الأخرى مثل الحصول على أرض مجّانية أو شقّة ضمن مجمّع سكني.
حرّية الديانة والمعتقد في روسيا مُطلقة، وتراها من خلال تسهيل السلطات الروسية بناء المساجد من دون حاجة إلى تراخيص بناء، أو أذونات لمباشرة بنائها.
القوقاز معقل المسلمين الروس
بفضل تلك السياسة، أمست جمهوريات مثل الشيشان وإنغوشيتيا “دور عبادة” كبيرة: مئات المساجد ومئات الأئمّة الذين يتكلّمون اللغة العربية، وتلقّوا دراسة الفقه في مصر والسعودية وسوريا، ومنهم من درس في لبنان. ينقلون ما تعلّموه إلى الأجيال الجديدة، التي لا يقلّ تمسّكها بالدين عن أسلافها. يرتادون المساجد ورجالهم ملتحون فيما نساؤهم محجّبات على الطريقة العربية، بعدما كان الحجاب فيما مضى من المحرّمات.
يقول الإمام الأكثر شعبية في القوقاز حمزات تشوماكوف، وهو من عشيرة يفلوييف الكبرى في إنغوشيتيا، وكان من أوائل الداعين إلى السماح بالحجاب في القوقاز، إنّ “إنغوشيتيا وبقيّة جمهوريات القوقاز عامّة تعيش اليوم حرّية غير مسبوقة. خلال خطبة الجمعة، يُسمح للأئمّة بالحديث في المواضيع كلّها من موعظةٍ وتصويبٍ ودعوةٍ إلى محاربة الفساد”.
وعند سؤال تشوماكوف، وهو الأقوى في ممارسة الدعوة الاسلامية السُنّيّة في روسيا، عمّا يخيفه أو ما طبيعة الخطر على أهل السُّنّة في روسيا اليوم؟ يجيب أنّ الخوف اليوم من “الجماعات المتطرفة والغلو في الدين”. في نظره “الخطر الوحيد الموجود في روسيا هم التكفيريون الذين يريدون تدمير ما بنيناه خلال الدعوة لأكثر من عقد”.
في الوقت نفسه يُطمئن تشوماكوف أتباعه بأنّ سياسة السلطات الروسية “لن تتغير، وخصوصاً بعد التقارب الكبير بين دول العالم الإسلامي وروسيا، والأخص دول الخليج ومصر وإيران، التي باتت تربطها بالقيادة الروسية علاقات مميزة”. ويضيف: “لروسيا نظرة إيجابية إلى علاقتها بالمسلمين. وهي ترى فيهم القوة والوفاء، وخصوصاً أهل القوقاز الذين إذا وعدوا وفوا وإذا عاهدوا صدقوا”.
المسلمون في الحقبة السوفيتيّة
فيما مضى كانت إنغوشيتيا جمهورية واحدة اسمها الشيشان-وانغوشيا، تتبع الاتحاد السوفيتي. وبعد انهياره انقسمت إلى جمهوريتين: واحدة أطلق عليها اسم الشيشان، والثانية جمهورية إنغوشيتيا أو انغوشيا كما يقول بعض العرب، وأُسست في 4 حزيران 1992.
وصل الإسلام هذه البلاد منذ أكثر من قرنين. لم يَسُد الاستقرار إلا بعد صدور قانون “حرية العقيدة” في روسيا القيصرية. لكن سرعان ما تلاشت هذه الحرية، وتحولت إلى مأساة بعدما اتهم السوفيت شعوب الشيشان والانغوش بمساعدة الغزو الألماني ضد السوفيت خلال الحرب العالمية الثانية.
هذا الأمر دفع بستالين إلى ترحيل عدد كبير منهم قسراً خلال عام 1944. ولهذا نقلت السلطات السوفيتية الكثير منهم إلى كازاخستان وإلى مناطق أخرى، وألغت جمهوريتهم.
في الماضي تعامل السوفيت مع الإسلام في الجمهوريات الإسلامية السوفيتية بعنف منذ أن بسطوا نفوذهم على تلك الأراضي. كانت الشرطة تضع يدها على جميع نسخ القرآن الكريم وتحرقها (من سنة 1348هـ – 1929 م إلى 1355هـ – 1936 م). وكانت هناك دعاية ضد الإسلام لمحاربة الدين وتشويه صورة المسلمين الذين يذهبون إلى المساجد أو يصومون رمضان أو يحتفلون بالأعياد الاسلامية.
ومنع السوفيات الحجّاج من الذهاب إلى بيت الله الحرام، كما منعوا الصلاة والصوم، بحجة أنّ هذه الشعائر تؤثر على اقتصاد المجتمع السوفيتي. وأصدر رجال الدين فتاوى تنسجم مع أهداف السوفيت. أُبيح للمسلمين أن يجتمعوا للصلاة مرة واحدة في اليوم، ويصوموا يوماً واحداً في رمضان. وقد أصدرت السلطات أمراً بمنع ذبح الأضاحي ولو كانت ملكاً خاصاً، بحجة الأضرار الاقتصادية. أمّا الحج فقد وُضعت معوقات عديدة لعدم تمكين المسلمين من أدائه.
عودة الإسلام
عاد النفس الإسلامي تدريجياً مرة أخرى في عام 1956. وذلك من خلال تبرئة مسلمي الشيشان وانغوشيتيا من تهمة التعاون مع الألمان، وهو ما أعاد معظمهم إلى بلادهم بعدما تعرّضوا لتحديات جمة بسبب تمسكهم بعقيدتهم. ويشكّل المسلمون الأغلبية في 7 أقاليم روسية تحضن إنغوشيا أعلى نسبة من بينها (نحو 98% من السكان مسلمون). ويُعرف عن الانغوش الكرم وحسن الضيافة وحفاظهم على العادات والتقاليد، كما يحترمون كبار السن ويعاملون الآباء والأمهات بوقار شديد.
أدى تفكك الاتحاد السوفيتي الى انهيار هذا النظام، وتخلصت روسيا من الإدارات الدينية للمسلمين، بعدما أعادت دمجهم ضمن المجتمع الروسي.
مذّاك إلى اليوم شهدت روسيا تبدّلاً رهيباً في العلاقة مع المسلمين. فبات احترام شعائرهم وطقوسهم من الخطوط الحمر. وكلّ حامل للجنسية الروسية، مهما كان دينه، متساوٍ في واجباته وحقوقه مع نظرائه الروس، ويحظى بمعاملة متساوية.
في الخلاصة، يمكن بسهولة القول إنّ المسلمين، الروس والشيشانيين، وبعدما كانوا حصان طروادة، الذي به “هزم” الغرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، باتوا هم “حصان” بوتين الرابح، وجيشه الإضافي، في حربه على أوروبا.. من أوكرانيا، ومن يعلم إلى أين.