“عربات السكاكر”… اقتصاد هامشي ينثر السعادة في لبنان !
حيثما تجولت في لبنان تصادفك عشرات من البسطات والعربات التي تبيع أشكالاً مختلفة من الحلوى والسكاكر، ناثرة مشاعر الفرح والسعادة في قلوب المارة. وتزايدت تلك العربات إلى حد كبير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فقد وجد فيها الشبان فرصة لتأمين الحد الأدنى من الدخل اليومي في ظل الانهيار المالي العظيم وفقدان الليرة اللبنانية قيمتها وتراجع قدرتها بمعدل 30 ضعفاً.
وأدى نجاح بعض التجارب الشابة إلى تحولها إلى “قدوة” يمكن اتباعها من أجل تحقيق الأرباح، وتحولت إلى متنفس للشباب العاطلين من العمل، لكن في المقابل تخفي تلك البسطات كثيراً من معاناة أصحابها، إذ يشكل هؤلاء شريحة مجتمعية فضلت الانطلاق في أعمال صغيرة على الانتظار.
حلوى “الغامي” بديل البقلاوة
ليس من قبيل المبالغة وصف “السكاكر الهلامية” بأنها سيدة العربات وصاحبة السعادة التي تستقبلها أعين المارة بكثير من الفرح والابتسامات العريضة. وبعد أن كانت عربات آحاداً توجد في بعض الأسواق، بدأت بسطات بيع “الغامي” Gummy بالانتشار في كثير من المناطق وتحديداً بطرابلس.
واحدة من تلك البسطات التي يديرها جان كلود (الرجل الأربعيني) على الرصيف المؤدي إلى شارع عزمي، تشكل مؤشراً إلى تحول اللبنانيين إلى نمط جديد من العمل أكثر مرونة.
يبدأ جان حديثه من إقفاله محلين كانا يديرهما في مجال بيع الملابس النسائية الجاهزة في شارع عزمي، فقد كان أحد ضحايا الانهيار الاقتصادي وأزمة صرف الدولار. لذلك كان جان بين خيارين أحلاهما مر، إما أن يخسر كل شيء، وإما الانتقال إلى “الخطة باء” والاستجابة للتحدي الذي فرضته الأزمة من أجل “عيش كل يوم بيومه”.
استلهم جان فكرة العربة من الأكشاك التي كان يصادفها أثناء زيارته لتركيا، حيث بلغت كلفتها قرابة ألف دولار أميركي، وهو مبلغ مقبول نسبياً مقارنة بعشرات الآلاف من الدولارات التي يحتاج إليها للعمل في مهنة بيع الملابس.
يلجأ بعض الزبائن إلى شراء حلوى الـGummy من أجل زينة أعياد الميلاد أو الهدايا ولإفراح قلوب الأطفال، ويصفون بحسب جان عربته بـ”متجر الفرح”، فهو “مكان يمنح المعنويات العالية”، و”فسحة الطاقة الإيجابية”.
ويعتبر جان أن “(الغامي) تمر بأحسن أيامها لأنها أرخص من الحلويات العربية والبقلاوة التي تجاوزت أثمانها السقوف المعهودة لدى العامة من الناس، وكذلك الفواكه الموسمية، لذلك راح الناس يستخدمونها ضمن تشكيلة الضيافة لجمال شكلها، وحلاوة مذاقها، وخفة وزنها”. كما يضعها ضمن خانة “التحول في البلد الذي أصبح فقيراً وغير مستقر، وقلة قليلة من الناس تجني المال والربح، فيما على الآخرين فقط العمل من أجل الصمود، إذ أصبح الهم الأكبر للمواطن تأمين فاتورة الاشتراك بعد أن قام بتقنين استهلاكه للحمة والسلع الكمالية، لذلك يعتمد كل لبناني على قريب في الاغتراب، الذي يقوم بتبييض وجهه معه بإرسال مئة دولار شهرياً لتغطية بعض الكلف”.
يلفت جان كلود إلى أن شريحة الزبائن اتسعت، فلم تعد تقتصر على الأطفال، لتشمل الرجال والنساء، الذين “يقصدونه”، و”الغالبية تشتري أقل من الأوقية، ويحتاج إلى فترات طويلة لبيع الكيلو الواحد”، وتنتمي هذه الحرفة إلى العمل المسائي، فهو يستمر بالعمل من الظهيرة إلى منتصف الليل، مشيراً إلى اضطراره إلى “شراء الدولار من السوق بشكل يومي من أجل شراء البضاعة التي يتم استيرادها من الخارج، ويقع في كثير من الأيام بالخسارة بسبب اضطراب سوق الصرف”.
يتناوب جان على العمل مع شقيقته في إدارة البسطة، ويحرص على ضرورة اعتماد المعايير الصحية والنظافة، مؤكداً أنه تمكن من بناء علاقة وثيقة مع زبائنه، وتحديداً أولئك ممن يأتون إليه بصورة دورية.
عودة الحلويات التقليدية
ما زالت الـ10 آلاف ليرة لبنانية لها قيمة في عالم البسطات والعربات. وتقود الجولة في الأسواق إلى العودة بانطباعات مليئة بالبهجة.
فإلى “السوق العريض” في طرابلس، عادت حلوة “العلوكة” القديمة بصيغة جديدة، وهي عبارة عن “سكر مكرمل” وتضاف إليه الصبغة الحمراء، حيث تقوم إحدى السيدات بدفع العربة نحو السوق لبيع صفوف التفاح المغطاة بالعلوكة، والمشكوكة بقطع الخشب.
وتعيد رؤية البسطة الشريحة الأكبر في السن إلى فترات الطفولة جنباً إلى جنب تحضر في السوق مع حلويات “السمسمية” و”الفستقية” و”جوز الهند”، كما تشكل البسطات مورد رزق للعاملين.
يؤكد أبو يزن (خمسيني) أنه بدأ في العمل على بسطته بعد أن تدهور الوضع الاقتصادي، وتوقف عمله في مجال البناء، مضيفاً أنه “ليس لديه خيار، إما البقاء في المنزل، وإما ينطلق وراء رزقه في السوق”. وقال إنه “يعمل من أجل تحقيق لقمة عيشه اليومية وشراء ربطة الخبز في حدها الأدنى”، مشيراً إلى أن “شرطة البلدية باتت تغض النظر عنهم بسبب الأزمة الاقتصادية”.
أطفال “غزل البنات”
إلى جانب العربات يمتهن كثير من الأطفال مهمة بيع “غزل البنات” بألوانه المتنوعة، وأبرزها الزهر والأبيض.
يروي عادل (11 سنة) أنه يبيع حلوى غزل البنات من أجل مساعدة عائلته “الفقيرة”. وقال إنه “يشتري الغزلة من إحدى السيدات التي تحضرها منزلياً”، ويدفع ثمنها 8 آلاف ليرة، ويبيعها بـ10 آلاف ليرة لبنانية، لافتاً إلى أنه يحقق ربحاً قليلاً، لكنه يؤمن “الحاجات الأساسية للأسرة”.
ويأسف عادل لأنه “لا يجيد القراءة والكتابة، فقد سبق له أن غادر المدرسة صغيراً من الصف الأول الابتدائي من أجل المساعدة في إعالة الأسرة”، متمنياً توسيع نطاق عمله مستقبلياً، وأن يجني ثمر جهده، فهو “يبدأ عمله في الصباح الباكر، ويبقى حتى الساعة السادسة والنصف مساءً”.
أقوى من الواقع
إلى جانب “بسطات السكاكر” تنتشر العشرات من عربات الكعكة الطرابلسية، وللوهلة الأولى تعتبر قصة رجل ستيني يبيع الكعك في مدينة طرابلس قصة عادية، ولا تمتلك أي عناصر جذابة ومثيرة، لكن من شأن توسيع دائرة الأحداث أن تعطي القصة أبعاداً جديدة، فمع ساعات الفجر الأولى تبدأ رحلة فؤاد من جديدة القيطع في عكار عند الرابعة فجراً، حيث يتجه إلى طرابلس لينتظر دوره أمام أحد أفران الكعك في منطقة باب الرمل عند الخامسة، ويسعفه الحظ أحياناً في ملء العربة بـ120 كعكة، فيما يصل نصيبه أحياناً في حال التأخير إلى 80 كعكة، حتى اللحظة لا جديد في القصة، فهو كسائر بائعي الكعك في المدينة الذين أصبحوا بالعشرات بسبب محدودية فرص العمل.
يتجه نحو الأحياء الداخلية للمدينة ويلتقي وجوهاً ألفها ليبيع لها السلعة الأرخص، ويترك فؤاد للزبون حرية اختيار كعكته، كما يفسح له المجال في وضع السماق.
في سن الـ64 لم يدخل فؤاد مرحلة التقاعد، وإنما يلتزم بيع سلعة الفقير من أجل إعالة عائلة مؤلفة من خمسة أفراد، وهو يخصص نهار السبت للبيع في منطقة عزمي الناشطة تجارياً.
وأشار فؤاد إلى أن الربح يتفاوت من يوم لآخر، وينفق جزءاً يسيراً منه على نفقة السرفيس، أما باقي المبلغ فيخصصه لمصاريف الأسرة.
ويتحسر فؤاد على واقع لبنان والفئات المهمشة فيه. وقال، “لو كنت بدولة تحترم الإنسان كنت حظيت بتقاعد جيد لأنهم في أوروبا يحترمون الحيوان”.
يحمل فؤاد بطاقة الإعاقة الصادرة عن الشؤون الاجتماعية، مؤكداً أنه لا يستفيد منها مطلقاً، ويتطلع أن تلتفت الدولة اللبنانية إلى شريحة البائعين المياومين، فهم لا يمتلكون أي شكل من الضمانات الاجتماعية أو الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
المصدر : بشير مصطفى – أندبندنت عربية.