هكذا تمنح طرابلس اللبنانية زائرها متعة خالصة !
الباحث عن عبق التاريخ والآثار العتيقة سيجد فيها بغيته، فما أكثرها في تلك المدينة، والمهتم بأنماط المعيشة المختلفة والأجواء الكرنفالية سيسعد بها حتماً، فـ”طرابلس الشام” التي تعد من أبرز المدن في خريطة “أهلاً بهالطلة” لتشجيع السياحة في لبنان، تعد زائرها بما هو أكثر من المتعة، فتلك المدينة المطلة على البحر المتوسط التي أسسها الكنعانيون منذ أكثر من ثلاثة آلاف و500 عام، تضم أكثر من 160 معلماً أثرياً، ولا يزال شطر منها يحتفظ بمبانيه التي تعود إلى العهد المملوكي.
ما إن تصل إلى ساحة التل حتى يستقبلك برج الساعة الحميدية، وسمي كذلك نسبة إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي عبر عن تقديره لتضحيات أهالي طرابلس الشام ببناء هذا البرج الذي تعهد بضبط حياة المواطنين لقرن من الزمن، هذا الموقع التراثي يتوسط الساحة التي تتضمن عدداً من المحافل من ضمنها قصر نوفل الذي بات يلعب دور المكتبة العمومية في المدينة، وحديقة المنشية التي تشكل واحة استراحة خضراء في وسط صخب المدنية، كما يشرف على القصر البلدي شارع عزمي بيك والمقاهي التراثية على غرار فهيم والتل العليا، إضافة إلى ذلك تعتبر ساحة التل التي كانت تتوسطها السراي قبل هدمها نقطة انطلاق نحو المدينة المملوكية القديمة.
القلعة والمتحف
يتكرر مصطلح “المتحف التاريخي الحي” في وصف مدينة طرابلس، ويعود ذلك إلى ازدحامها بالمواقع الأثرية، ولا يكتمل البرنامج السياحي إلا إذا تضمن زيارة “قلعة طرابلس” الواقعة فوق تلة مشرفة على المدينة، وليس من المبالغة القول إن لهذا الموقع الأثري الضخم مزية كبيرة، لأنه يختزن تاريخ المشرق العربي، إذ بنيت تلك القلعة على حقبات تاريخية متعاقبة، بدءاً بالإفرنج الصليبيين ومن ثم الحقبة العربية والمماليك وصولاً إلى الحقبة العثمانية، كما بقيت شاهدة على تاريخ لبنان خلال مرحلة الاستقلال والحرب الأهلية، حيث صمدت في وجه القذائف التي ما زال بعضها عالقاً على الأسوار المنيعة.
تتضمن قلعة طرابلس عدداً من المساكن والإسطبلات والمخازن والسجون ودور العبادة والسراديب وغيرها، إنها المدينة القديمة الموزعة على طبقات عدة وبامتياز، ومنذ اللحظات الأولى تبدأ باستكشاف أشياء جديدة من الأسوار المنيعة والجسور الدفاعية التي تسبق البوابة الضخمة، وصولاً إلى القلب الشاسع، مروراً بمجموعة النواويس.
كما تم إنشاء متحف شمال لبنان وعكار ضمن إحدى قاعات القلعة، التي تتمتع بإنارة ذاتية من خلال نور الشمس الطبيعي، وهو ما يشكل دليلاً إضافياً على إبداع القائمين على هندستها وبنائها.
يتضمن المتحف عدداً كبيراً من المقتنيات القديمة، على مدى الحقبات التاريخية منذ العصور البدائية، إلى الحقبات الفينيقية والهيلينية والبيزنطية والرومانية، ومن ثم زمن البشارة المسيحية، والفتح العربي الإسلامي، وتشهد مجموعة التماثيل والنقود إضافة إلى اللوحات والمقالع على غنى كبير في الحقبات التي عاشتها البلاد.
الخانات والحمامات
كما تتضمن مدينة طرابلس عديداً من الأسواق والخانات التي لا تزال تحمل أسماء بعض المهن، وكذلك تلعب الوظائف التقليدية لها، بدءاً بسوق الذهب أو الصياغين حيث تشع الواجهات باللون الذهبي، داعية الباحث عن مدخرات ثمينة إلى الداخل، صعوداً نحو سوق العطارين الذي ما زال صامداً بعطوره وروائحه أمام تمدد المدنية، أما في سوق النحاسين فيواصل الحرفيون من آل الطرطوسي ممارسة الحرفة التي ورثوها عن أجدادهم، حيث تسقط المطارق على ألواح النحاس الخام، مولدة أشكالاً بديعة.
وفي خان الخياطين استعادت مهنة الخياطة بعض وهجها في ظل الأزمة الاقتصادية، كما تشكل مقصداً أساسياً للسياح الأجانب المشدودين بأناقة الشروال وأصالة الطربوش والكوفية، ولا يمكن إغفال خان الصابون فهناك يجد الباحثون عن العناية بالبشرة والجمال الخارجي شيئاً مما يبتغون.
كما تحظى الحمامات بمكانة خاصة في طرابلس، فمن أراد تجربة الحمام العربي التقليدي والتكييس والتدليك سيجد ذلك في حمام العبد، أما من يريد الاطلاع على الحمام من الناحية العمرانية فلا بد له من زيارة حمام عز الدين الذي أنجزت عملية ترميمه ويستقبل بعض النشاطات الثقافية، أو حمام النوري عند مدخل سوق الذهب، وهو موقع عظيم يعاني الإهمال.
السياحة الدينية
تشهد شوارع طرابلس وأزقتها على أزمنة من التنوع والتعايش الغني، لذلك فإن زيارة المواقع التي تنتمي إلى خانة السياحة الدينية هو أمر لا غنى عنه، بخاصة الكنائس المسيحية التراثية في منطقة الزاهرية، وتحديداً كنيسة اللاتين والقديس جاورجيوس ومار نقولا، إضافة إلى مزار سيدة يونس الذي رمم استعداداً لإعادة افتتاحه في منتصف أغسطس (آب) بمناسبة عيد السيدة في الطريق المتفرع عن السوق العريض، من دون أن ننسى كنيسة مار مارون، وكنائس مدينة الميناء على اختلاف طوائفها، كما تضم المدينة عدداً كبيراً من المساجد والمدارس الفقهية الإسلامية القديمة، ومنها جامع الأمير طينال، والجامع المنصوري الكبير، وجامع البرطاسي الواقع على ضفاف نهر أبو علي، إضافة إلى الزوايا الصوفية، وفي مقدمتها التكية المولوية التي رممت في إطار الحفاظ على التراث العثماني في المدينة.
الحرف الحية
إلى جانب الغنى العمراني والطقوسي، تحتضن طرابلس الحرف التقليدية المتوارثة عبر الأجيال، ففي منطقة التربيعة يواصل الحرفي فضل أسعد تجهيز فرشات الصوف والمساند التي يصنعها يدوياً، هذا الحرفي هو واحد من قلة قليلة تحافظ على تلك الحرفة المبهجة للناظرين، كما يستمر الكندرجية (صانعو الأحذية) في عملهم المعهود، وعلى الرغم من غزو المفروشات الحديثة للمنازل يستمر حرفيو طرابلس من آل سكاف في صناعة كراسي القش والسلال التي زاد الإقبال عليها من أجل تزيين القصور والمطاعم.
التجربة الفريدة
لكي تكتمل زيارة طرابلس لا بد من تجربة نكهاتها المتنوعة، حيث يختزن المطبخ الطرابلسي المطبخين الشامي والتركي في آن، ليخلص إلى هوية خاصة به على غرار الشخصية اللبنانية، ويقصد اللبنانيون طرابلس لتناول بعض الحلويات العربية التقليدية، التي لا توجد بالجودة والطعم ذاتهما خارجها، مثل حلاوة الجبن بالقشدة وحلاوة الشميسة والمفروكة والجزرية والمعجوقة، كما يمكن أن يتذوق بعض الأطباق المالحة كالمغربية واللحم بعجين مع دبس رمان.
كما تقدم إليك مدينة الميناء الجزء البحري من طرابلس مذاقاً خاصاً بالمأكولات البحرية والأسماك، وفي هذه المدينة نفسها يمكن أن يختبر الزائر تجربة السياحة البحرية، فعند كورنيش الميناء عشرات القوارب التي تنقل الزائرين إلى منطقة الجزر التي تتراوح بين الاستجمام والسياحة وعلى وجه التحديد جزيرة الأرانب أو جزر النخيل التي تبعد نصف ساعة عن شاطئ البحر، ليشهد الزوار على نظافة شاطئها الرملي ولذة السباحة في مياهها النقية بعيداً من صخب المنتجعات السياحية.
المصدر : بشير مصطفى – أندبندنت عربية.