الأزمات تفتك بالصحة النفسية للبنانيين و خوف من استفحال العنف
نعرف جميعا أننا لسنا بخير. وتأتي التقارير الأممية وقراءات المحللين النفسيين والاجتماعيين لتؤكد المؤكد.
الأثر المدمّر
في العام 2020 قدّمت ممثلة منظمة اليونيسيف في لبنان يوكي موكو تقريراً بعنوان “لبنان في قلب الأزمات المتلاحقة وتأثيراتها على الأطفال”، اعتبرت فيه أن “التدهور غير المتوقع لرفاهية الأطفال والشباب والعائلات التي تعيش في لبنان، ووباء كوفيد-19، إضافة للوضع الاقتصادي المتدهور بشكل كبير الذي سببته انفجارات بيروت، تركت أثراً مدمراً على الأطفال والعائلات الأكثر عرضة للخطر، وهم في أمس الحاجة إلى دعم فوري”.
ربط التقرير بين وضع الأطفال النفسي، وما نعيشه من أزمات، وفي الواقع فإن تأثيرات الأزمة لا تتعلق بصحة الأطفال النفسية فقط، بل تصل إلى كل فرد من أفراد المجتمع اللبناني الذي يعيش حالة فوضى استثنائية بدأت مع بدء الانهيار الاقتصادي.
عادة ما يكون جوابنا على سؤال “كيفك”، أننا بخير. لكن الواقع ليس كذلك، ولو كان البعض منّا لا يشعر اليوم بتداعيات الأزمات في لبنان عليه، فما نعيشه يُعتبر مؤذياً للغاية للصحة النفسية للأفراد والتجمعات.
عن حسن ورلى
حسن شاب لبناني متأهل وله ولد واحد، يُعاني من صعوبات في النوم بسبب ما يُعرف بـ”التفكير المفرط”، وهو مرض من الأمراض التي تُصيب الإنسان، وتؤدي إلى تداعيات سيئة. يقول في حديث لـ”المدن”: “منذ حوالي السنة بدأت أعاني من الأرق، إضافة إلى تشنج في العضلات ووجع في الجسم. وتطورت حالتي إلى ألم حاد في الرقبة واليد اليمنى، فزرت طبيب صحة عامة وكان التشخيص الأولي بأنني أعاني من تشنج نتيجة التوتر، فحولني إلى طبيب أعصاب، علماً أنني أعاني من نقص الشهية أيضاً، فانخفض وزني 7 كيلوغرامات خلال أشهر، وهو ما اكتشف الطبيب علاقته بالضغط اليومي الذي نعيشه”.
يضيف حسن: “أفكر باستحقاقات الحياة، وعدم قدرتي على مواكبتها، وعلى مستقبل ابني الصغير، فلا يمكنني سوى التفكير بالغد، وخلال الفترة الماضية بدأت بتناول مجموعة من المسكنات لكنها لم تكن شديدة الفعاليّة”.
ليس حسن وحده من يُعاني من التفكير المفرط الذي يؤدي إلى تداعيات نفسية وجسدية على صحة الإنسان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تُعاني رلى، من قلق شديد وخوف من ما يحمله المستقبل، فتفكر بغدها لدرجة تجعلها تفقد الإحساس بيومها. تقول رلى في حديث لـ”المدن”: “أخشى مما يحمله الغد، بسبب ما عشناه طيلة المرحلة الماضية، إذ شاهدنا الموت والدمار، والفقر، والطوابير، واليوم بتنا نخشى المرض لاننا لن نتمكن من الحصول على العلاج، وكل ذلك في ظل انعدام للأمن والأمل”، مشيرة إلى أنها تعلم أن نتيجة هذه التراكمات تنعكس على الجسد أمراضاً، وعلى العقل إرهاقاً وتأخراً، فهي أصيبت منذ فترة بأزمة نفسية حادّة لم تتمكن بعد من الخروج منها بشكل كامل.
حالات معممّة
قد تعكس حالة حسن ورلى واقع نسبة كبيرة من المواطنين. فالأزمة الاقتصادية وانعكاسها الأمني والاجتماعي لها تداعيات أبعد من الأفراد، فهي تؤثر على المجتمع بكامله. ويُشير المتخصص في علم النفس الاجتماعي محمد بدرا إلى أن “الأزمة التي تُلقي بظلالها على المُعاش اليومي للأفراد ستترك تأثيراً سلبياً على جهازهم النفسي ووالوعي الجماعي للمجتمع اللبناني”، مشدداً على أن “أبعاد الأزمة تتمظهر بكثير من السلوكيات الجماعية التي يمكن اعتبارها أشد ضرراً من السلوك الفردي، أبرزها، فقدان الثقة والخوف والقلق”.
غياب النظام-الأب
يضيف بدرا في حديث لـ”المدن”: “إن غياب الأب الرمزي الذي يمثله “النظام” في الدولة أو القانون، وتهشّم السلطة القضائية والأجهزة الأمنية، كلها أمور تؤدي إلى زعزعة ثقة المواطنين بدولتهم التي كانوا يلجأون إليها في المحن، بما يؤدي إلى اختلال في توازنهم النفسي، وارتفاع مستوى خوفهم وقلقهم في أبسط المهمات التي تقوم بها الشعوب. أي التوجه إلى العمل أو التسوق على سبيل المثال، خاصة في ظل ارتفاع أعداد السرقات والاعتداءات، ما يؤثر على سلوك الفرد مع نفسه ومع محيطه”.
ويلفت بدرا النظر إلى أن “الأزمة الإقتصادية أدت إلى عدم قدرة الأفراد على إشباع حاجاتهم الأساسية، أي المأكل والمشرب، واستقرارهم المكاني. والأمران هما أساس في أي فحص نفسي يحصل للأفراد. فعدم القدرة على الاستقرار المكاني أو إشباع الحاجات الأساسية يؤديان حكماً إلى عدم استقرار نفسي، يتراكم مع الوقت ليتحول إلى قلق مزمن، ثم عُصاب فردي وجماعي، فتتحول المجتمعات إلى مجتمعات عنيفة، وهذه النتيجة الحتمية لكل ما ورد أعلاه.
العجز عن التأقلم
“لا شكّ أن انسداد الأفق لدى اللبناني يؤدي إلى عدم القدرة على التخيل والإبداع”، يقول بدرا، مشيراً إلى أن “الانسان يميل دائما الى تكرار المُعاش، فالعادة فيها راحة، لذلك قد يكون من الأسهل على الأطفال التأقلم مع مستجدات الحياة في لبنان. أما الكبار فقد لا يملكون الأدوات للتأقلم”.
يرى بدرا أن كل هذه الأمور تجعل الأفراد أكثر قلقاً وحساسية تجاه الأحداث. وتزيد استعداداتهم لاستعمال العنف. أما الجماعة فتتعرض هوية عناصرها للتشويه، ويضمحلّ انتماؤها الوطني ويبحث أفرادها عن جماعات صغيرة للتقوقع فيها. وتتنامى صفات كالكذب والخداع والمراوغة.
المصدر :
المدن