هل سيصبح الصندوق السعودي ـ الفرنسي بديل عن صندوق النقد الدولي؟
عندما يتحوّل سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء الى مؤشر لأسعار السلع الحياتيّة والاستهلاكيّة، ارتفاعاً، وهبوطاَ، فمعنى ذلك أن قاعدة العرض والطلب هي التي تتحكم في سوق “الدولرة”، مع فائض من الجشع، والطمع.
وما يجري في سوق القطع من فوضى، غير منطقي، وغير مبرّر. هناك فاعل “مجهّل”. و”أدوات فعل” من “الأشباح تشيل وتحط”، و”مفعول به” هو الشعب الرهينة المغلوب على أمره، الذي يكابد ويتكبّد لتأمين رغيف خبزه، ورمق حياته.
والفوضى الماليّة ـ الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة ـ المعيشيّة، هي الآن موضع عناية لدى مراكز الدراسات والأبحاث العالميّة، ومادة مشوّقة تدرّس في كبريات الجامعات للوصول الى قناعات منطقيّة توازي ما بين النظريات العلميّة، والفوضى التطبيقية، وتداعياتها على الأمن الغذائي.
حتى السرديات المدبّجة بحبر المعاناة، والتي استرسلت طويلاً في شرح ما يجري، وتوصيفه، وتشخيص أسبابه ودوافعه السياسيّة، والماليّة، والاقتصاديّة، فاتها القول بأن ما يجري على أرض الواقع، إنما هو ممر إلزامي لا بدّ من عبوره كي يتكيّف المواطن مع مجتمع صندوق النقد الدولي، واقتصاده، ونمط عيشه، ومستلزمات هذا العيش، وتحدياته.
ولا بدّ هنا من فتح مزدوجين عريضين:
الأول، ما يجري، إنما هو مخطط له، ومبرمج، ومعدّ بدقة وإتقان من قبل دوائر القرارالمتابعة للمأزق اللبناني. وإن المنظومة السياسيّة المحليّة شريك أساسي متورّط، إن بفعل الترغيب، أو الترهيب، ودورها أشبه بهيئة تنفيذيّة مقيّدة بشروط وأحكام، للوصول بالبلاد والعباد الى هذا الدرك من التقهقر، والتسيّب، وانعدام الوزن، من خلال الأساليب المتبعة، والقرارات المرتجلة، والدراسات غير المتطابقة والموصفات، والإمكانات المحليّة، والموحى بإخراجها من دون “رتوش”!
الثاني، ما يجري، أشبه بعلاج كيميائي لمعالجة التورّم السرطاني. إنها المحاولة الثالثة، بعد سابقتين فاشلتين، الأولى عن طريق حرب تموز 2006، وما رافقها من ضجيج إعلامي ومخابراتي، ومن أثمان باهظة، وكلفة عالية. والثانية عن طريق التسويات الداخليّة، وحكومات “الوحدة الوطنيّة”، وطاولات الحوار، والتفاهمات حول الاستراتيجيّة الوطنية الدفاعيّة، من “إعلان بعبدا” الشهير في عهد الرئيس ميشال سليمان، إلى محاولات الرئيس ميشال عون لـ”قوننة” المعادلة “الذهبيّة”، جيش ـ شعب ـ مقاومة… وقد ذهبت جميعها أدراج الرياح!
المحاولة الثالثة بدأت تحت شعار “الرغيف، أولى من السلاح النظيف”.
كان التعويل على القطاع المصرفي، قبل أن تستهدف العقوبات الأميركيّة أصوله، وفروعه، فولد “القرض الحسن”، الذي لا يزال مسوّراً بالكثير من علامات الاستفهام والتعجّب.
وكان تعويل على المصرف المركزي، وهندساته الماليّة. اليوم جفّ ضرعه، ولم يعد احتياطه يكفي لدعم القمح، والمحروقات، وفاتورة الدواء، وبعض المواد الغذائيّة. ويقف حاكمه عند الشاطئ، تدفع به الأعاصير المحليّة بقوة نحو اليمّ، فيما تتلقفه الأمواج العاتية من وراء البحار لاقتلاعه وإغراقه!
وكان التعويل على صناديق الدعم الخليجيّة، والودائع الماليّة، والقروض، والمساعدات، وتحسين المبادلات التجاريّة، والسياحيّة. اليوم غادرت رفوف السنونو الربيع اللبناني، وما يخفق في الأفق أجنحة غربان، وكواسر تبحث عن فريستها بين أكوام المعاناة.
ما يجري قد يفاجئ اللبنانيين الخارجين من هزليّة مضحكة ـ مبكيّة اسمها الانتخابات النيابيّة، التي جرى عرضها تحت شعار “نحنا معكن فينا ـ ونحنا فينا معكن”!
خبراء صندوق النقد الدولي يؤكدون بأن المسار المالي ـ الاقتصادي ـ المعيشي الراهن، أمر لا بدّ منه، للوصول الى اقتصاد حر، منتج، بحيث يتولى الموطن “حكّ جلده بظفره”، والاستغناء، إلى غير رجعة، عن زمن الاعتماد على “البقرة الحلوب”. لقد انتهى “الكرنفال”، وولّى زمن التشبيح، والبقرة جفّ ضرعها، وبالتالي عليه أن يتدبّر أمره، وخريطة الطريق باتت واضحة أمامه، والحاجة أم الاختراع.
خبراء العلوم السياسيّة، روّاد مراكز الدراسات والبحوث، يؤكدون بأن المسار الاقتصادي، سيؤدي من دون أدنى شك، إلى مسار سياسي مختلف. وهذا المسار مطلوب من المجتمع الدولي، بمقدار ما هو مطلوب من جانب كثيرين في الداخل اللبناني، “فالسلاح النظيف، لا يؤمن الرغيف، بل يزيد من أعداد المتسكعين عند الرصيف”!
كان الرهان على اللبناني المميّز الذي يركب الأمواج، ويشرّع مركبه عكس الريح، ويواجه بمجذفه الأنواء العاتية. لكن الرهان سقط تحت أنقاض مرفأ بيروت الذي دمّر الرئة الاقتصاديّة، ومعها ثلث العاصمة، وبقي الفاعل مجهولاً.
وسقط الرهان مع سقوط المبادرة الفرنسيّة في قصر الصنوبر. وسقط مع سقوط كل القرارات التي اتخذتها المؤتمرات الدوليّة لدعم لبنان بالمليارات من الدولارات، ذلك أن الحالة السرطانيّة لا يمكن ان تنمو وتتمدد في جسم قوي معافى يكتسب مناعته من خطط التعافي الاقتصادي، بل تتمدد في جسم نحيل، وخلايا متحللة.
إن الممر الإلزامي الصعب، والمكفهر، الذي يجتازه لبنان، ما بعد الانتخابات، سيؤدي الى تغييرين: نظام اقتصادي حر بقوالب حديثة تحاكي روح العصر وتحدياته، ونظام سياسي هو “نظام المؤسسات… على أنقاض نظام الميليشيات والمحسوبيّات”.
وآخر الكلام أن تعديلاً قد طرأ نتيجة المشاورات الفرنسيّة ـ السعوديّة المكثفة، بحيث لا يكون لبنان رهينة صندوق النقد الدولي، بل في عهدة الرعاية العربيّة ـ الدوليّة ضمن مسارين متلازمين:
- تطوير عمل الصندوق السعودي ـ الفرنسي، بحيث يتحوّل الى رافعة دوليّة للاقتصاد اللبناني.
- تطوير الاتصالات المكثفة حول خريطة الطريق للأزمة السياسيّة، حتى إذا ما اكتملت عناصرها يصار الى إخراجها بـ”طائف آخر” يفعّل “الطائف الأول” ويضع بنوده موضع التنفيذ تحت إشراف ورعاية عربيّة – أمميّة.
المصدر : الجريدة.