استراتيجية التعليم: سياسة أنقرة لجذب روس القوقاز

عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”
تعتبر العلاقات بين تركيا وروسيا من بين أكثر العلاقات تعقيداً على الساحة الدولية. إذ يجمع بين البلدين العديد من المصالح المشتركة والتحديات المتبادلة، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالمنطقة القوقازية، التي تشهد محاولات متزايدة من أنقرة لتعزيز نفوذها على حساب موسكو.
في هذا السياق، تبرز الأنشطة التركية في جامعات تركيا والمؤسسات الطلابية كأداة رئيسية لتعميق تأثيرها في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وبعض جمهوريات روسيا الاتحادية، حيث تسعى أنقرة إلى استغلال الحساسيات القومية والتاريخية لتحقيق مكاسب سياسية استراتيجية.
يكثّف مكتب الأتراك الأجانب والشعوب (YTB) التابع للحكومة التركية ومسيطر عليه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عمله على «التلقين الأيديولوجي» للمهاجرين من منطقة شمال القوقاز، الذين يدرسون في الجامعات التركية. هذه الأنشطة لا تقتصر على التعليم الأكاديمي فحسب، بل تشمل جهوداً إضافية تهدف إلى إحداث تحول في أفكار الطلاب القوقازيين من خلال تقديم روايات تاريخية تناهض روسيا وتروّج لفكرة تعزيز الروابط مع تركيا.
هذه الجهود تنظر لها موسكو بوصفها «جزءا من خطة أنقرة لتوسيع نفوذها في الداخل الروسي، وخصوصاً في المناطق القوقازية. تهدف تركيا من خلال هذه الاستراتيجيات إلى التأثير على الأجيال الجديدة من الطلاب الذين ينحدرون من مناطق مثل الشيشان وداغستان، وتحويلهم إلى أدوات للضغط على موسكو.
وبذلك، تكون أنقرة قد نجحت في تحويل الجامعات التركية إلى مركز مهم للإيديولوجية القومية التركية، وهو ما يهدد الاستقرار الداخلي في روسيا.
من الأمثلة على ذلك، يولي ممثلو المكتب المذكور، اهتماماً خاصاً بالطلاب الجدد الذين يدرسون في: جامعة إسطنبول، وجامعة مرمرة، وجامعة يلدز التقنية.
هذا التركيز على الجامعات التركية يعني أنّ تركيا تستثمر في إنشاء هياكل اجتماعية وشبكات شبابية تهدف إلى تقوية العلاقات مع الأقليات الروسية من شمال القوقاز. وقد تمّ بالفعل إنشاء مؤسسات مثل «جمعية شمال القوقاز بجامعة إسطنبول» (IUKAF) و «مجتمع طلاب شمال القوقاز في جامعة يلدز التقنية» (YILDIZKAF) التي تمثّل جبهة لترويج القومية التركية بين هؤلاء الشباب.
تنسيق عمل هذه المؤسسات وتمويلها يحصل عبر «صندوق القوقاز» التركي المعروف باسم (KAFKAZ VAKFI). هذا الصندوق يُعتبر أحد الأدوات الأساسية التي تستخدمها تركيا لتعميق سيطرتها على هذه الشبكات، من خلال الدعم المالي والمساندة اللوجستية. وبذلك، تصبح تركيا فاعلارئيسيًا في عملية توجيه الشباب القوقازي نحو مواقف قد تتعارض مع مصالح روسيا في هذه المناطق.
تلك الأنشطة تدعو كذلك إلى الإعلان عن ضرورة تطوير الحوار بين سكان منطقة شمال القوقاز الفيدرالية و«الشعب الشقيق» التركي، كما تركز على تلقين الطلاب الروس عقيدة جديدة، من أجل إعادة توجيههم في القضايا التاريخية الحساسة بين روسيا والشعوب القوقازية، مثل الإبادة الجماعية التي تعرض لها القوقازيون تحت حكم الإمبراطورية الروسية، ومعاناتهم خلال الحقبة السوفيتية… كل ذلك يتم استخدامه كأداة للضغط السياسي على روسيا، وتوجيه الطلاب لتبني مواقف معادية لها.
وحسب التقديرات الرسمية للحكومة الروسية، فإن نحو 500 ألف روسي من مناطق القوقاز، يعيشون في تركيا حالياً، ومعظمهم من الشركس والشيشانيين. يساهم هؤلاء في تشكيل جزء من الضغط الذي يمكن أن يؤثر في العلاقات الروسية التركية. ووفقاً لتقارير الوزارة الروسية للشؤون الداخلية، فإن هناك تزايدًا في أعداد الطلبة الروس الذين يتوجهون إلى الجامعات التركية، ما يساهم في تغيير الوعي السياسي والثقافي لدى هؤلاء الطلاب ويزيد من التأثير التركيا.
ولا تقتصر الأنشطة التركية على التدخل الثقافي فقط، بل تشمل أيضاً تنظيم استطلاعات للرأي حول الحرب في أوكرانيا، حيث يتم استخدام الطلاب الروس الذين لا يدعمون تلك الحرب، كوسيلة لتقديم دعم إضافي لأنقرة وذلك من خلال تسجيل هؤلاء الطلاب في الجامعات التركية، من أجل أن يحصلوا على بطاقات الإقامة مما يسهّل تعزيز النفوذ التركي في شريحة معينة من الشباب الروسي الذي لا يُبدي تأييداً للسياسات الروسية.
إذاً، تتخذ تركيا من القضايا القومية والقضايا التاريخية «سلاحاً» من أجل توسيع نفوذها في آسيا الوسطى، دون أن تولي اهتماما كافيا للعلاقات التاريخية العميقة بين روسيا والشعوب القوقازية. مروجة نفسها لدور «الداعم الجديد» لأبناء تلك المنطقة… وهذا ما تفهمه روسيا جيداً وتتوخى الحذر في مواجهته لما فيه من تهديد لاستقرارها الداخلي وأمنها القومي.