زنازين كالقبور وملفات تحقيقات ونمر سيارات !
عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”
صبّ الإعلام الغربي اهتمامَه في الأيام الستة الفائتة على سجن صيدنايا، بينما قلّة قليلة التفتت إلى «فرع فلسطين». ويؤكّد الدمشقيون أن هذا الفرع الاستخباراتي الذائع الصيت، مخصّص للموقوفين بقضايا وملفات خارجية، وهو من أعتى فروع المخابرات السورية وأشدها قسوى.
«القدس العربي» استطاعت أن تزور الفرع المذكور، الذي يحتل مساحة تزيد على 5 آلاف مترٍ مربّعٍ في العاصمة دمشق، ويتألف من أبنية عدّة منتشرة بين الباحات تفصلها الحواجز الأمنية والعوارض الحديدية التي تُحاكي صعوبة التنقل من مبنى إلى آخر، ويتوسطها المبنى الرئيسي المؤلف من 8 طبقات، ويبدو أهمها الثالث والرابع التي أحرقت فيهما بعض الغرف التي تحتوي على الكثير من الملفات.
أحد الصحافيين العرب، دخل غرفة في الطابق نفسه، وراح يعاين جميع الملفات بداخلها، حيث استطاع أن يجمع عدداً كبيراً من لوحات السيارات الحديدية لسيارات من جنسيات مختلفة: لبنانية، سعودية، إماراتية، وخلافه.
لا أحد يعرف ما سبب وجود تلك اللوحات بفرع للمخابرات في وسط العاصمة دمشق، لكن يبدو أنّها لنزلاء صُودرت سياراتهم، واسُتخدمت لأغراض مجهولة.
أما الغرفة المجاورة، فكانت تغصّ بملفات التحقيقات التي تحتاج إلى أشهر من أجل معاينتها ومعرفة أسماء أصحابها. كلّ ملفٍ على رأسه شريحة هاتف خلوي أو أكثر، ثبّتت بشريط لاصق شفاف، وكُتب جنبها بخط صغير «ضُبط مع الموقوف».
يصطحبنا أحدُ الحراس إلى مبنى آخر مؤلف من طبقتين، ويطلب منّا إضاءة مصابيح هواتفنا الخلوية من أجل معاينة الزنازين تحت الأرض. رائحة العفن تفوح من المكان الذي يشبه القبور. كل زنزانة مثبّتة بجنزير حديدي كي لا يفتح بابها إلا قليلاً (نحو 30 سنتمتراً فقط). داخل كل زنزانة فرشة إسفنجية لونها أسود من كثرة امتصاصها للأوساط. أما الحمام فيعلو الغرفة بواسطة درجتين وعلى باب كل حمام عبوة بلاستيكية لزوم الاغتسال. الجدران مزينة بالعبارات «ابن درعا مرّ من هنا»… «انتظريني» وكذلك روزنامات شخصية تحوي أيام الأسبوع من أجل إحصاء أيام الحبس خلف القضبان.
عند مدخل المبنى الرئيسي فرع فلسطين، يقف عددٌ من حراس «هيئة تحرير الشام» كي ينظموا دخول الصحافيين إلى الفرع. الصحافيون لم يكونوا وحيدين في ذاك المبنى. قلّةٌ قليلة من السوريين حضرت منذ الصباح الباكر، وسُمح لهم بمعاينة السجلات وجوازات السفر وبطاقات الهوية المنثورة عند المدخل: أكثر من ألف بطاقة هوية وجواز سفر سوري أزرق منثورة على الأرض، بينها جوازات بألوان أخرى تعود لجنسيات عربية أخرى (أردنية، سعودية، لبنانية).
يجثو طفل بعمر 10 سنوات في غرفة الحرس، ويتفحّص جوازاً تلو الآخر. تسأله «القدس العربي» عن سبب حضوره إلى هنا، فيقول: «أبحث عن أخي وعمي وابن عمي».
رجلٌ أخر اختلى بدفترٍ كبير لونه كحلي، مدوّن فيه تفاصيل تخصّ نزلاء فرع فلسطين. تحت أشعة الشمس راح الرجل يتصفّح الدفتر ويتتبّع الأسماء بحثاً عن أخ أو والد. رجل آخر يرافقه كان يتصفح دفتراً مختلف، دُوّنت فيه أسماء الذين وقعوا على استلام مقتنياتهم وإطلاق سراحهم ذات يوم.
يشرح أحدهم آلية البحث فيقول: «كل جواز سفر أو هوية موجود هاهنا يعني أنّ صاحبه لم يخرج من الفرع. ولو خرج لكانوا (أي عناصر المخابرات) سلموه بطاقته الشخصية». هذه الجملة يُستنتج منها أن جميع الجوازات والبطاقات لأشخاص مفقودين!
من خلال البحث بين بطاقات الهويات، بدت هوية مختلفة عن تلك السورية المكدّسة، يمكن تمييز لونها الزهري وتحمل اسم ادريس محمد فارس من بلدة كامد اللوز اللبنانية البقاعية.
«القدس العربي» نشرت صورة لتلك البطاقة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الأمر كان كفيلاً بتطوّع العشرات من أجل التدقيق بهوية هذا الشخص ومعرفة مكان إقامته والتأكد إن كان على قيد الحياة أو من عداد المفقودين.
بعد نحو ساعة يتواصل إدريس مع مراسل «القدس العربي» يؤكد أنّه خرج من فرع فلسطين يوم الأحد. أي يوم سقوط نظام بشار الأسد، فيروي رحلته من منطقة المصنع الحدودية إلى فرع فلسطين.
يؤكد إدريس وهو شيخ تخرج من الأزهر ويعمل مُدرّس لغة عربية في مدرسة سلطان يعقوب التحتا، أنه أوقف في منطقة المصنع قبل 24 يوماً. في حينه كان يرافق صديقه اللبناني الذي اصطحبه إلى العاصمة دمشق من أجل إحضار عائلته من سوريا.
يقول إدريس: «حينما وصلت إلى الحدود السورية قال لي الأمن العام السوري إنني مطلوب لفرع فلسطين. أوقفوني يوماً كاملاً في نظارة الحدود، وفي صباح اليوم التالي نقلوني في الباص إلى فرع فلسطين».
بعد الوصول إلى الفرع في دمشق يروي إدريس طريقة استقباله هناك، ويشير إلى أنّ الحراس أخذوا منه هاتفوه الخلوي وبدأوا بتفحص كل ما في داخله، ويضيف: «بصمت على بعض المستندات بعد أن سلّمت مقتنياتي وأدخلوني أحد المهاجع بعد أن أعطوني رقماً شخصياً (الرقم 11) وأبلغوني برقم المهجع (18) فتحوا باب المهجع فأدار جميع الموقفين وجوههم إلى الداخل من أجل عدم مشاهدة السجّان.
يتابع إدريس: «مكثت في مهاجع الفرع قرابة 24 يومياً، لم يخبرني الحرس ما هي تهمتي. لم يحققوا معي وكلما سألتهم عن سبب توقيفي كانوا ينهرونني ويبدأوا بالشتم، ويهددونني بالتعليق».
أمّا التعليق، فهي طريقة للتعذيب يستقبل الفرع نزلائه بها، فيريهم فورَ دخولهم شخصاً معلقاً بشكل متعمّد من أجل أن يلتزم النزيل بالتعليمات على ضغط والترهيب.
يؤكد الشيخ إدريس أنه بقي عدد النزلاء في المهجع الذي استقبله لـ 24 يوماً هو قرابة 80 نزيلاً. كان بينهم لبنانيّان بخلاف الأول من منطقة عكار والآخر من العاصمة بيروت ولا يذكر اسميهما. أما عدد اللبنانيين في الفرع كله فيقول إنه قرابة 52 لبنانياً.
ووفق إدريس: «البروتوكول اليومي في الفرع، هو أن يسحبوا كل يوم شخصاً أو شخصين، ويضربونهم بالأنابيب البلاستيكية، يختارهما مسؤول المهجع عشوائياً. على هؤلاء أن يتلقوا الضرب بصمت، وممنوع أي منهما أن يستغيث أو ينطق بكلمة: يا الله. من يتضرع إلى الله تضاعف له الضربات حتى يعود إلى المهجع مضرجاً بالدماء».
أمّا القسم الأغرب من قصة إدريس التي يرويها لـ “القدس العربي» فتلك المتعلقة بالخروج من الفرع بعد سقوط النظام، ورحلة العودة إلى لبنان، فيقول: «أنا محظوظ لأنني لم أمكث بالفرع أكثر من 24 يوماً، وكان آخرها يوم الأحد الفائت. في حينه لم نعلم أنّ النظام قد سقط. لكننا سمعنا طلقات نارية كثيفة بعد منتصف الليل. إلى أن دخل شبان مسلحون وأخبروننا بعد أن حرروننا وقالوا بأن نظام الأسد قد سقط».
يتابع: «خرجت من زنزانتي لا أعرف الجهة التي أقصدها. لا أملك مالاً ولا بطاقة شخصية. وصلت إلى ساحة العباسيين بواسطة باص يقوده عدد من الثوار. أقلّوني إلى هناك واتصلت بأخي، الذي استمهلني لإبلاغ أقاربنا في الشام، فحضروا وأخذوني إلى منزلهم، ثم إلى المصنع حتى أدخل الأراضي اللبنانية».
قصة إدريس تؤكد أنّ ثمة ناجين لبنانيين كُثر لم يتمّ التعرف إليهم بعد، ربّما مع الوقت يتكشف مصيرهم وتُروى قصصهم.