السمك.. عنوان انتخابي في بريطانيا
عماد الشدياق نقلاً عن “عربي21”
يرزح قطاع مطاعم السمك في بريطانيا تحت أزمة نقصٍ بأنواع أسماك القدّ والحدّوق، وذلك منذ أن أعلنت روسيا تمزيق اتفاقية بحر بارنتس مع المملكة المتحدة، وهو ما شكّل تهديدا لإمدادات هذا النوع من السمك في البلاد، وبدأ يُبعدها أكثر فأكثر عن القطب الشمالي ذي الأبعاد الجيوسياسية المتنامية وثرواته الوفيرة.
وسائل إعلام بريطانية، منها صحيفة “ديلي ميل”، ذكرت في وقت سابق من هذا العام، أنّ الصيادين البريطانيين اصطادوا في العام 2023 وحده كمية “هائلة” من السمك في بحر بارنتس، وصلت إلى أكثر من 566 ألف طن، أو ما يصل إلى 40 في المئة من سمك القدّ والحدّوق المستهلك في المملكة المتحدة، من المياه والأراضي الروسية.
لكن برغم ذلك ترفض لندن الاعتراف بهذه الحقيقة وتدّعي العكس، فتقول إنّ الخطوة الروسية الأخيرة ربّما لا يكون لها تأثير كبير على تجار السمك، لأنّ النقص تلبّيه الأسماك الموجودة في المياه النرويجية القريبة. لكن في الوقت نفسه تتهم لندن موسكو بأنّها تستخدم هذا القطاع كـ”سلاح”، وتؤكد أنّ هذا الإجراء ليس بالأمر الجيد!
خلفيات القرار
وسبق أن اعتمد مجلس الدوما الروسي مطلع العام، قانونا يرفض اتفاقية عام 1956 التي سمحت للبحارة البريطانيين بالصيد في المنطقة الروسية في بحر بارنتس. إذ نشر الدوما مذكرة توضيحية أكدت أنّه بالنظر إلى قرار المملكة المتحدة الصادر في 15 آذار/ مارس 2022، القاضي بإنهاء نظام “الدولة الأولى في الرعاية” في التجارة الثنائية بين بريطانيا وروسيا، فإنّ فسخ اتفاقية الصيد كردّ “لن يسبب عواقب وخيمة على السياسة الخارجية وعواقب اقتصادية على روسيا” كما أنّ رفض أحد أطراف الاتفاقية “لا يشكل انتهاكا للقانون الدولي”.
وكتب نائب رئيس المجلس الفيدرالي كونستانتين كوساتشيف، عبر قناته على “تلغرام”، أنّ منع بريطانيا من صيد الأسماك في منطقة بحر بارنتس الروسية، هو “إجراء طال انتظاره”، معتبرا أنّه “قانونيّ ومناسب” وهو بمنزلة ردّ من موسكو على تصرفات لندن “غير الودية”.
تاريخ الاتفاقية عواقب على لندن
والاتفاقية قديمة جدا، وتعود إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تم التوقيع عليها بين حكومتي الاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية بموسكو في 25 أيار/ مايو 1956.
وتمنح الاتفاقية الحقّ للسفن البريطانية بالصيد في مياه بحر بارنتس على طول ساحل شبه جزيرة كولا، وعلى طول البر الرئيسي شرق كيب كانين نوس، وكذلك في ساحل جزيرة كولغويف.
ويقع بحر بارنتس الذي سُمِّي باسم مواطن هولندي (وليام بارنتس) اكتشفه في العام 1594، في الشمال الشرقي من النرويج ضمن الجزء الأوروبي من روسيا، كما تفصل بينه وبين المحيط المتجمد الشمالي جزر سڤالبارد وفرانز جوزيف لاند.
وتكون المياه الدافئة الآتية من تيار الخليج خلال فصل الصيف، ممرا صالحا للملاحة طوال العام بطول الساحل حتى ميناء مورمانسك الروسي، ثم تتجمّد خلال فصل الشتاء، لكنّها تبقى موطنا لأنواع سمك القدّ والرنجة والحدّوق.
الإجراء الروسي ردّ فعل.. وليس فعلا
ومنذ أن أصبحت روسيا “الوريث القانوني” للاتحاد السوفييتي، ظلت الاتفاقية سارية المفعول. لكن الخطوة الجديدة تأتي بعد أكثر من عامين من الحرب في أوكرانيا، التي ضغطت بالفعل على الشركات في المملكة المتحدة، خصوصا تلك التي تعتمد على هذا النوع من الأسماك. وشهدت أسعار القدّ والحدّوق ارتفاعا كبيرا فتسببت بتآكل مدخرات الصيادين البريطانيين.
وبدأ الخلاف يوم فرضت بريطانيا تعريفة جمركية على الأسماك البيضاء القادمة من روسيا، والتي كانت في حينه تشكل نحو 50 في المئة من الأسماك البيضاء المستهلكة في المملكة المتحدة، فأدى الأمر إلى انخفاض في الغذاء في بريطانيا بنحو 20 في المئة، حُرم منها المواطنون البريطانيون.
لكن في المقابل، لم يتسبب الإجراء البريطاني بأيّ عواقب سياسية واقتصادية خطيرة على الاتحاد الروسي، وذلك على عكس الإجراء الروسي الأخير الذي يهدّد اليوم قطاع مطاعم السمك في بريطانيا، نتيجة السياسات التي تتخذها حكومة لندن بشكل أعمى، على حساب مصالح مواطنيها.
ليس هذا فحسب، فإنّ الإجراء البريطاني، ثمّ الرد الروسي عليه، يؤدي مع الوقت إلى تدمير نفوذ لندن الجيوسياسي، خصوصا لناحية تصاعد التوترات الدولية حول القطب الشمالي مع دخول الصراع حول ثرواته الهيدروكربونية والمعادن ومصائد الأسماك، مرحلة محمومة من أجل هيمنة القوى الدولية والإقليمية عليها.
وللمفارقة، فإن بريطانيا اليوم ترفض التدبير الروسي الذي سبق واستخفت به يوم هدّدت موسكو باتخاذه، كما تعتبره لندن اليوم مثالا على “العزلة” التي فرضتها روسيا على نفسها. لكنّ بريطانيا في الوقت نفسه تقول بخلاف الواقع، إنّ انسحاب روسيا من الاتفاقية ليس له أيّ تأثير عليها، وذلك لأنّ الأسطول البريطاني لا يصطاد هناك. لكن برغم هذا كلّه، تؤكد الحكومة البريطانية أنّها لم تتلقَ أيّ إخطار رسمي من موسكو بشأن هذا القرار.
الصيادون الروس يرحبون
وفي المقابل، يتّهم الصيادون الروس تلك الاتفاقية بالغبن، ويقولون إنّها منحازة لصالح البريطانيين في الغالب ولا تقدم فوائد مماثلة لروسيا، بينما تعتبر موسكو السياسات البريطانية “قصيرة النظر” وتهدّد البلاد بخسائر تقدر بمليارات الدولارات، نتيجة فقدان فرصة مجانية تمكّن الصيادين البريطانيين من الحصول على الأسماك في الجزء الروسي من بحر بارنتس.
في المحصلة، يمكن القول إنّ لندن سوف تبدأ بمواجهة سؤال يسبق الانتخابات العامة في البلاد بنحو عام ومفاده: كيف يمكن كبح ردّة فعل المواطنين البريطانيين تجاه العواقب السلبية الناجمة عن الحسابات السياسية الخاطئة المتعددة، والتي يتمثل أحدها في فقدان النفوذ في بحر بارنتس؟ ربّما الصناديق الانتخابية سوف تجيب.