القطب الشمالي: نزاع جديد تتفوق فيه موسكو على واشنطن
عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”
يبدو أنّ الصراع بين روسيا والغرب لن يقتصر على أوكرانيا، أو على عنوان «الأحادية القطبية» وبقية الشؤون الخلافية الأخرى حول العالم، بل سيتعداه في المقبل من الأشهر والسنوات إلى عنوان جديد آخر هو: «القطب الشمالي». هذا الجزء المنسيّ من العالم تحت طبقات الجليد وغرابيب الليل وعتوّ الرياح، بدأت عيون الدول الكبرى تتفتح على منافعه الاقتصادية وثرواته المفترضة، نتيجة التغيّر المناخيّ، إلاّ أنّ روسيا تبقى الدولة الأكثر تأثيراً فيه، والأكثر قدرة على الاستفادة منه ومن موارده، وكذلك، الأكثر سطوة وقدرة على منافسة كل من تسوّل له نفسه الاقتراب منه باعتباره «ظهر العالم»، لـ3 أسباب:
1- لأنّ روسيا تمتلك أطول حدود مطلّة على القطب.
2- لأنّها تمتلك أكبر أسطول من السفن وكاسحات الجليد.
3- لأنّها الأكثر حضوراً في القطب ديمغرافياً وأمنياً وعسكرياً.
تفوّق في المجالات كافة
تقديرات المراقبين تشير إلى أنّ الولايات المتحدة في حال كانت تطمح لمنافسة روسيا في القطب، فسيتعيّن عليها توسيع أسطولها من السفن الكاسحة للجليد بشكلٍ كبير، حتى تنافس القدرات الروسية المتفوّقة في هذا المجال بفرق واسع، قد يصل إلى 1/40. ثمة فجوة واسعة بين قدرات روسيا وتلك الخاصة بالولايات المتحدة، التي أعادت هيكلة قواتها المسلحة من أجل شنّ قتالٍ مفترض وواسع النطاق ضد خصوم مفترضين مثل، روسيا والصين، لكنّها في الوقت نفسه أغفلت منطقة القطب الشمالي، بينما اليوم يضغط مشرّعوها من أجل تجديد الاهتمام بتلك المنطقة، التي بقيت في آخر سلم اهتمامات واشنطن في السنوات الخمسين الفائتة، بخلاف روسيا. تعتبر موسكو أنّ منطقة القطب الشمالي «ذات أهمية استراتيجية» لها، لأنّها تمتلك أطول خطّ ساحلي في القطب الشمالي مقارنةً بأيّ دولةٍ أخرى حول العالم، هناك، أي في شمال دائرة القطبية، يعيش نحو 2 مليون مواطن روسي. وهناك أيضاً تتابع موسكو شؤون الشحن وصيد الأسماك من قرونٍ عديدة، لكنّها في السنوات الأخيرة وسّعت وجودها العسكري والأمني، خصوصاً بعد أن أدّى تغيّر المناخ إلى ذوبان الجليد البحري، فكشف الساحل الشمالي للبلاد.
وكذلك بعد أن ظهرت «دراسات جدوى» حديثة حول القطب الشمالي، تفيد بإمكان تحوّله إلى ممرّ اقتصاديّ منافس للممرات البحرية التقليدية، خصوصاً خلال فصليّ الربيع والصيف، حيث يقع طريق «بحر الشمال» داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لروسيا، ومن المقرّر أن يدخل ضمن خطط روسيا الاقتصادية في المستقبل، وحسب تلك الدراسات، فإنّ هذا الطريق البحري سوف يتيح للسفن الوصول إلى وجهتها بشكلٍ أسرع مما لو كانت عبر طريق «قناة السويس» المصرية، إذ يُمكن لسفينة الشحن أن تقطع رحلة من اليابان إلى ميناء في هولندا عن طريق السفر عبر المحيط المتجمد الشمالي، بأقل من نصف المسافة الحالية، أي أقل من 6 آلاف ميل بدلاً من أكثر من 12 ألف ميل، ولهذا ربّما يتحوّل القطب الشمالي مع الوقت إلى مسرح رئيسيّ لصراعات مستقبلية بين روسيا والغرب، وربّما أيضاً بين روسيا وبعض دول الشرق.. فلا شيء مستبعد.
واشنطن تعترف بالتخلّف
يقول الجنرال الأمريكي غريغوري جيلو، الذي يرأس القيادة الشمالية للقوات المسلحة، خلال جلسة استماع في الكونغرس، إنّ الولايات المتحدة تتخلّف «بشكلٍ خطير» عن روسيا في عدد سفن كاسحات الجليد اللازمة لضمان التنقّل في المياه المتجمدة، إذ تمتلك واشنطن سفينةً ثقيلة واحدة مخصصة لكسر الجليد في القطب الشمالي، في حين أن روسيا لديها نحو 40 سفينة. ويضيف جيلو: «إذا أرادت الولايات المتحدة المنافسة في هذه المنطقة، فستحتاج إلى توسيع أسطولها من سفن كاسحة الجليد بشكلٍ كبير لمنافسة، ليس روسيا فحسب بل أيضاً الصين»، التي تمتلك قدرة على تطوير كاسحات الجليد تسير بخطى سريعة كذلك، ويؤكد أن بكين «مرشّحة لتتجاوز قدرات واشنطن في عام 2025»، على الرغم من أنّها دولة غير مطلة على القطب الشمالي.
3 سفن أمريكية متهالكة أو معطلة
وكاسحات الجليد هي سفن ثقيلة، مصممة لاختراق طبقات الجليد السميكة، التي تطفو على سطح البحر، فتفتح بذلك المياه أمام مرور المزيد من السفن التقليدية، بمعزل ما إذا كانت تلك السفن تجارية أو عسكرية. وتمتلك الولايات المتحدة كاسحة ثقيلة يتيمة اسمها «بولار ستار»، وزنها نحو 13 ألف طن، ودخلت الخدمة منذ ما يقرب من 50 عاماً. كما تمتلك أخرى متوسطة اسمها «يو أس سي جي سي هيلي»، وتعتمد عليهما لفتح الطرق في القطب الشمالي. ولدى واشنطن سفينة شقيقة لـ»بولار ستار»، يُطلق عليها اسم «بولار سي»، لكنّها خارج الخدمة منذ عام 2010 بسبب تعطّل 5 محرّكات ديزل من أصل 6 خاصة بها. وقد طلب خفر السواحل الأمريكي زيادة الأموال للتركيز على منطقة القطب الشمالي لأكثر من 20 عاماً، لكن الإجراء الذي اتخذه الكونغرس تأخّر بشكلٍ متكرر.
قدرات نووية منقطعة النظير
أمّا روسيا فتُشّغل حالياً ما يربو على 12 سفينة ثقيلة كاسحة للجليد تعمل بالطاقة النووية، وهي الدولة الوحيدة حول العالم حتى الآن التي تستخدم تلك التقنية في كاسحات الجليد. وتُصنّف «أركتيكا» و»سيبير»، اللتان تعملان بالطاقة النووية، على أنّهما أقوى سفينتين لكسر الجليد في العالم، تضمنان سلامة الملاحة الروسية في المحيط المتجمّد الشمالي على طول طريق «بحر الشمال»، الذي تسعى روسيا إلى تطويره كأهمّ ممرات النقل لروسيا، من أجل تعزيز إمكاناتها التصديرية وإنشاء طرقٍ لوجستيةٍ فعّالةٍ تصل إلى جنوب شرقي آسيا مباشرة، كما تسعى بشكل متزايد إلى تنمية هذا الطريق من أجل تأمين شريان حياةٍ اقتصادي، بعد فرض عقوبات غربية ضدها، أضف إلى هذا كلّه، فإنّ أكثر من نصف سواحل القطب الشمالي تعدّ أراضي روسية، وتشير التقديرات العلمية أن تلك المنطقة تعوم على ثرواتٍ ضخمةٍ، ربما تصل إلى نحو 35 تريليون دولار أمريكي، حسب «وول ستريت جورنال». كما تُطلّ تلك المنطقة على دول مثل النرويج والسويد وأيسلندا في القارة الأوروبية، وكذلك على كل من كندا والولايات المتحدة في جزء من ولاية ألاسكا.. وهذا ما يكسبها تلك الأهمية الاستراتيجية.
شراكة روسية ـ صينية
سبق أن سلّطت صحف أمريكية الضوء، على تحركات روسية – صينية وصفتها بالـ»مكثفة عبر المياه المتجمدة»، وأشارت إلى أنّ القيمة الاستراتيجية لتلك المنطقة تتزايد في الفترة الأخيرة، خصوصاً في إطار منافسة بكين وموسكو مع واشنطن. وتعتبر واشنطن أنّ تلك الشراكة الأمنية المستجدة بين روسيا والصين في القطب الشمالي، هدفها تعزيز التجارة عبر طريق القطب الغني بالطاقة، مع فتح ممرات شحن جديدة بين آسيا وأوروبا نتيجة ذوبان الجليد، قد تؤدي في النهاية إلى إدخال طرق شحن جديدة تماماً بالقرب من القطب الشمالي. وفيما تعتبر موسكو أنّ حق تنظيم طريق «بحر الشمال»، يعود إليها حصراً بموجب «اتفاقية القطب الشمالي»، فإنّها تستغل هذا الطريق من أجل نقل سفن الغاز الطبيعي المسال، وتلك الخاصة بالبضائع من العبور في مضيق بيرينغ، الذي يمتد على طول الحدود البحرية بين المياه الروسية والأمريكية غرب ألاسكا، إذ تظهر الإحصاءات ارتفع عدد السفن التجارية والحكومية التي ترفع العلم الروسي والنشيطة في مياه القطب الشمالي، إلى متوسط شهري بلغ 709 سفن في العام الماضي 2023.
إذن، كل هذه المعطيات تشير إلى أنّ الصراع على القطب الشمالي وثرواته ومقدراته سوف يحتدم في المستقبل، لكن الكلمة الفصل ستكون لروسيا في تلك المنطقة التي تذكرها العالم اليوم.