المدن الروسية “مصانع” لنسيج مجتمعي متنوع
نبيل الجبيلي نقلاً عن “الجزيرة”
لا بد من أن تنعكس مساحة روسيا الكبرى على الغنى الثقافي والتراثي في أكبر دولة في العالم، تجارب لا تنسى تقدمها روسيا لكل زوارها عبر تاريخها الزاخر وجمالها الطبيعي ومدنها الباهرة، مناطق كثيرة تمكن زيارتها في روسيا، ولكل منطقة فيها مذاقها الثقافي وتراثها الخاص، اللذان يقدمان صورة جميلة عن التنوع الثقافي والعرقي الموجود في روسيا الاتحادية.
ميزة التنوع تلك قل نظيرها في دول العالم. روسيا لا تشبه “وعاء السلَطة” الذي يجمع مكونات متمايزة في مكان واحدة، لكنها تبقى محافظة على تنوعها. على العكس من ذلك، تتماهى في روسيا الإثنيات والعرقيات في ما بينها، وتذوب الاختلافات لدرجة أنه تصعب ملاحظتها إلا في المظهر الخارجي.
أما أسلوب الحياة والاندماج والتعايش فكلها واحد. كل هذا التمايز يتخطاه الشعب الروسي، فيستطيع أي زائر أن يلمس ذلك من لحظة أن تطأ قدماه الأراضي الروسية.
موسكو.. عاصمة الـ25 مليون مسلم
باعتبارها عاصمة روسيا وكبرى مدنها، تعد موسكو المركز الثقافي والسياسي والاقتصادي للبلاد. هي عاصمة الـ25 مليون مسلم، التي تشتهر بمبانيها الرائعة والأثرية، التي تحدثك أحجارها عن عراقتها وأصالتها؛ تكفي زيارة الساحة الحمراء أو كاتدرائية القديس باسيل أو قصر الكرملين ومسرح البولشوي، حتى يكتشف الزائر كم هي تلك المدينة باهرة.
في هذه المدينة، تتشابك العناصر التاريخية وتلك الحديثة، حيث العديد من المتاحف والمعارض الفنية والمطاعم تنتظر الزوار لاكتشافها. في موسكو تجاور المطاعم التي تستقبل المسلمين والأطعمة “الحلال” تلك التي تقدم المشروبات والخمور، كما تتعانق الكنائس مع المساجد، فتمتزج أصوات الأجراس مع الأذان.
ويوم الجمعة يجتمع أكثر من 10 آلاف مصل في مسجد موسكو الكبير (أكبر مسجد في أوروبا)، فتفيض الناس خارجه بسبب زحمة المصلين. في صلاة عيد الفطر أو عيد الأضحى، تقفل الطرقات وتسمع التكبيرات تصدح في أنحاء العاصمة، فيشعر الزائر نفسه في السعودية أو في الدوحة أو القاهرة.
أما في محطات مترو الأنفاق، فتلك قصة أخرى. في مترو أنفاق موسكو، يخال الزائر أنه في متحف فني لا في محطة قطارات. في كل محطة تكتشف نفسا فنيا مختلفا عن المحطة الأخرى؛ لوحات فنية وتماثيل مزخرفة وشعارات رخامية بعضها مصنوعة من البرونز وأخرى من النحاس.
سان بطرسبورغ.. لؤلؤة الشمال
هي مدينة القيصر بطرس الأول، ومن بين أجمل المدن الروسية، وذلك بغناها التاريخي والفني، وكذلك لقربها من القارة الأوروبية. سميت المدينة في الماضي بأسماء عديدة: “بتروغراد” (1914- 1924)، ثم “لينينغراد”، أي مدينة لينين أول زعيم سوفياتي (1924-1991)، وأخيرا سان بطرسبورغ.
من تلك المدينة انطلقت أولى قذائف البارجة “أفرورا” باتجاه قصر الشتاء، معلنة بدء الثورة الروسية عام 1917. كانت عاصمة البلاد لأكثر من قرنين في عهد الإمبراطورية الروسية، ثم فازت موسكو بلقب العاصمة، بعيد تلك الثورة عام 1918.
أسهمت سان بطرسبورغ في صناعة الانتصار في حرب الشمال العظمى، التي استمرت أكثر من 20 عاما وفتحت آفاق اتصال واسع للقيصرية مع الحضارة الأوروبية، ولهذا تذخر تلك المدينة القابعة غربي روسيا بالمتاحف الفنية الرائعة، مثل متحف هيرميتاج، وقصر الشتاء، وكاتدرائية القديس إسحاق، وقصر بيترهوف، بوصفها “وليمة بصرية” للزوار.
أما القنوات الممتدة على طول نهر نيفا، فتضفي جوا فريدا للمدينة، بينما “الليالي البيضاء”، أي الفترة التي لا تغرب فيها الشمس ليلا خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز، فتوفر تجربة لا تنسى، تشعر زائرها بأنه انتقل إلى كوكب آخر بخلاف كوكبنا الأزرق حيث تعاقب الليل والنهار.
أجمل مسجد روسيا موجود في سان بطرسبورغ، شيد عام 1913 على طراز مسجد تيمورلنك في سمرقند، وكان حين افتتاحه أكبر مسجد في أوروبا. هو من المعالم التاريخية التي تعود للحقبة القيصرية، إذ شيد خلال السنوات الأخيرة من حكم القيصر نقولا الثاني، يوم كانت المدينة العاصمة الملكية.
صمم المسجد على غرار مساجد بخارى ويقع وسط المدينة. افتتحه رسميا أمير بخارى سید میر محمد أمیر عالم خان، ويصل ارتفاع مئذنته إلى 49 مترا، وتعلوه القبة الزرقاء الرائعة التي يبلغ ارتفاعها 39 مترا.
يوم بنى رئيس الشيشان رمضان قديروف مسجد غروزني، قال للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “بنيت أهم وأجمل مسجد في روسيا”، فقاطعه بوتين وقال له: “لا يوجد أجمل من مسجد سان بطرسبورغ”.
ضواحيها من بين أروع ضواحي المدن حول العالم، حيث قصور وحدائق فرق غاشينا الشهيرة، أورانيم باوما، بيترهوف، ستريلني، بافلوفسك وتسارسكوي سيلو.
كانت سان بطرسبورغ منبت أشهر فرق “الروك الروسية” المبدعة، مثل “أكواريوم”، و”إليسا” و”كينو” و”أوكتسيون” و”بيكنيك” وغيرها. أما نادي لينينغراد الأسطوري لموسيقى الروك المطل على نهر نيفا، فاحتضن لفترة طويلة الحفلات ومهرجانات الروك.
حديثا، تحولت المدينة إلى واحة لاستقبال الحفلات الموسيقية الشعبية، حيث غنى نجوم عالميون فيها، مثل ليدي غاغا، وتوكيو هوتيل، وستينغ، وديب بيربل، وغيرهم الكثير.
قازان.. آثار الثقافة التتارية
قازان مدينة لا تقل عراقة عن موسكو وسان بطرسبورغ، وهي من مدن الجزء الشرقي من روسيا الاتحادية. تحمل قازان معاني ثقافية عظيمة، فتعكس أماكن مثل “كرملين – قازان”، ومسجد “كول شريف” الشهير، وشارع “بومان”، ثراء تلك المدينة التاريخي.
فيها تعيش مجموعات عرقية ودينية مختلفة مع بعضها بعضا، في ظل جو عارم بالتسامح. وتملك مطبخا متميزا، ولهذا تكثر فيها المطاعم حيث يمكن لزوارها تجربة أذواق مختلفة من الأطباق اللذيذة.
تتمتع قازان بتنوع ثقافي يشمل الثقافات التتارية والقوقازية والسلافية، مما ينعكس على طابع المدينة ومعالمها المتنوعة. فهي عاصمة تتارستان وكبرى مدنها، تقع عند التقاء نهري الفولغا وكازانكا، وهو ما يزيد مناطقها جمالا وسحرا.
نمت قازان مع الوقت، وتحولت إلى مركز صناعي وثقافي وديني رئيسي في روسيا. صحيح أن عدد سكانها قرابة 1.5 مليون نسمة، لكنها احتضنت قرابة مليوني سائح عام 2015، في حين زار 1.5 مليون منهم (ما يعادل عدد سكان المدينة) “كرملين – قازان” السياحي.
عام 2009، أعلنتها موسكو “عاصمة روسيا الثالثة”، كما اختيرت لتكون عاصمة الرياضة الروسية، إذ استضافت دورة الألعاب الجامعية الصيفية عام 2013، وكانت إحدى المدن المستضيفة لكأس العالم 2018.
احتضنت العام الماضي مؤتمر “روسيا – العالم الإسلامي” باعتباره مبادرة لتعزيز العلاقات وآفاق العمل المشترك بين روسيا والمسلمين حول العالم، خصوصا أن الإسلام في هذه المدينة عمره قرابة 1100 سنة. هي عنوان التجربة الروسية في الحفاظ على التنوع العرقي والثقافي والوئام بين الأديان، وضمانة لتعزيز الهوية المدنية المشتركة.
قازان اليوم واحدة من أكبر المراكز الصناعية والمالية في روسيا، ومدينة رائدة في منطقة الفولغا الاقتصادية في البناء والاستثمار. أما الصناعات الرئيسية فيها، فهي الهندسة الميكانيكية، والصناعات الكيميائية، والبتروكيميائية، والمواد الغذائية.
تولياتي.. مدينة الـ”لادا”
هي مدينة في سمارا أوبلاست، الروسية. تقع على الضفة الشرقية لنهر الفولغا، وعلى بعد نحو ألف كيلومتر جنوب شرق موسكو. تعد تولياتي واحدة من كبرى المدن في روسيا، ومركزا صناعيا واقتصاديا مهما في البلاد.
تطورت، فتحولت إلى مركز نابض بالحياة مع مزيج من الهندسة المعمارية الحديثة والتاريخية.
كانت تولياتي تعرف سابقا باسم ستافروبول، والمسلمون فيها هم ثاني أكبر مجموعة من المؤمنين. توجد فيها أيضا جاليات وجمعيات من جميع الديانات الرئيسية، بمن فيهم المؤمنون القدامى، والكاثوليك، واليهود، والبروتستانت، والبوذيون وغيرهم.
اكتسبت اسمها تيمنا باسم السياسي الإيطالي بالميرو تولياتي، ويطلق عليها لقب “مدينة السيارات الروسية” أو “موتاون الروسية” (مثل ديترويت في الولايات المتحدة).
تأسست المدينة بوصفها حصنا عام 1737، لكنها اكتسبت أهمية كبيرة خلال الفترة السوفياتية، عندما تم إنشاء مصنع “أفتوفاز” لصناعة السيارات، أي مصنع سيارات “لادا” الشهيرة. لعبت هذه الصناعة دورا حاسما في تطويرها وتشكيل بنيتها التحتية وتركيبتها السكانية.
المشروع انطلق بالاشتراك بين شركة “فيات” الإيطالية والحكومة السوفياتية، وتم بناء جزء كبير من المدينة الحديثة في الستينيات نظرا لاحتضانها عمال ذاك المصنع، الذي يهيمن اليوم على اقتصاد المدينة برمته. مع الوقت، انتقلت صناعات أخرى إلى تولياتي، نظرا لقربها من إمدادات الكهرباء والمياه والبتروكيميائيات الوفيرة.
عام 2011 تم إطلاق منطقة تولياتي الاقتصادية الخاصة، من أجل مواصلة تطوير المنطقة وتنويع اقتصاد المدينة.
تتمتع تولياتي بمرافق رياضية عالية الجودة، ولهذا ينتقل كثير من الرياضيين الروس للعيش فيها. تنظم أيضا على مدى الفصول الأربعة دورات رياضية، فتقصدها الفرق من سائر الأقطار الروسية. في تولياتي، وُلد لاعب دفاع مونتريال كنديانز السابق أليكسي إيميلين، وجناح واشنطن كابيتالز السابق فيكتور كوزلوف، والمدافع أليكسي تيزيكوف، كما ولدت هناك داريا كاساتكينا لاعبة التنس المحترفة.
في تولياتي أيضا عديد من المتنزهات ذات الأهمية الثقافية والتاريخية، مثل حديقة النصر ونصب النصر التذكاري ومعالم أثرية وسياحية أخرى، وكذلك ساحة الحرية مع مسلة المجد، وسنترال بارك مع “ملاك الحداد” (نصب تذكاري لضحايا القمع السوفياتي)، وتمثال كبير للينين، وغيرها من المعالم الأثرية التي تخلد تاريخ هذا البلد المتنوع والحاضن للأديان والثقافات والأعراق المتنوعة، وكلها تحت مسمى “المواطنة الروسية”.