ما قصة ال “فاغنر”…و ما الذي يحدث في روسيا هذه الأيام !
على طريقة شمشون الجبّار “عليَّ وعلى أعدائي”، قرّر زعيم مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين “هدم المعبد” فوق رؤوس الجميع، معلناً زحفه نحو موسكو لمحاسبة قيادات الجيش التي غدرت به وقتلت رجاله بضربات جوّية، حسبما قال أمس في فيديو مصوّر.
غدروا به وسيردّ “بالطريقة التي يراها مناسبة”… هي تصريحات غريبة، واتّهامات بالخيانة وأرفقها بدعوة صريحة وجّهها للناس من أجل النزول إلى الشارع بهدف “التخلّص من الخونة”.
لم يردع بريغوجين قرار جهاز الأمن الاتّحادي الروسي الذي صدر مساء أمس الأوّل (الجمعة) وقضى برفع دعوى جنائية ضدّه، وذلك بعد تصريحاته الداعية إلى ما سمّاه الجهاز “التمرّد المسلّح” انتقاماً من قيادات موسكو التي قال إنّها قتلت الآلاف من رجاله. دعوة ترقى إلى حدّ بدء صراع أهليّ مسلّح، إثر تعهّده بإعدام قائد الجيش الروسي في الساحة الحمراء ودفنه إلى جانب ضريح لينين.
فهل جنّ الرجل فعلاً بعد تلقّيه ضربة جوّية، حسبما يقول، قضت على 2,000 مقاتل من رجاله؟ هل فقد صوابه ليتمرّد على من أعطاه حتى أغناه، وجعل منه قائداً بعدما كان رجلاً ذا سمعة سيّئة؟
خلفية الرجل “المجنون“
حتى تاريخ هذا التمرّد كان بريغوجين ورجاله أشبه بـ”المنقذين”، الذين خاضوا معارك طاحنة باسم الشعب الروسي للدفاع عنه.
تقول مصادر “أساس” إنّ الكرملين بدافع التفاوض مع بريغوجين والوقوف عند طلباته
يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم إنّ ما فعله قائد “فاغنر” هو “خيانة للشعب وطعنة في الظهر”. يقولها بوتين في أصعب وقت تمرّ به روسيا، واعداً بالتخلّص من المتمرّدين والقضاء عليهم.
فلماذا العصيان والتمرّد وخدمة “الأعداء” الذين يبحثون عن نصر وهميّ، بعد الخسارات المتتالية وفشل الهجوم الأوكراني المضادّ باعتراف الغرب وإعلامه؟
لماذا يقدم بريغوجين على هذا الجنون؟ ومقابل ماذا يخاطر بكلّ ما حقّقه ويراهن على امتيازاته؟ خصوصاً أنّ خطوة كهذه، تعارض توجّهات الكرملين، ستجعله يخسر أمواله وشركاته ويتعرّض لأشدّ العقوبات؟
أمّا جنوده، أصحاب السوابق الذين حاربوا إلى جانب الجيش الروسي وحصلوا على براءات من أبشع التُهم، فهم أيضاً سيتخلّون عنه إذا لوّحت الدولة بإعادة إدراجهم على لائحة المطلوبين. وبالتالي هم معرّضون ألا يظلّوا أبطالاً كما جعلهم الكرملين اليوم، ومهدّدون بالعودة إلى السجون لتُسلب حرّياتهم… فهل يبقون في صفّه؟
هل يحلّ قديروف بدل بريغوجين؟
سيناريوهات عدّة تتحدّث عنها الأوساط الروسية ووسائل الإعلام الروسي:
– السيناريو الأوّل: يدّعي بأنّ الرجل مستاء، وقد ضاق ذرعاً من تصرّفات القيادة العسكرية الروسية، فقرّر التمرّد عليها بالفعل قبل أن تنقلب هي عليه وتزيحه من المشهد فيصبح خارج المعادلة. وهناك دلالات عديدة ظهرت في العملية العسكرية الخاصة، منها قطع السلاح والإمدادات عنه، قبل أن يتدخّل بوتين شخصياً ويعيد الأمور إلى نصابها.
وفي هذا السيناريو يجري الحديث عن محاولة إضعافه والطلب منه أن يوقّع هو وجنوده عقوداً مع وزارة الدفاع. وهو ما اعتبرها إحدى وسائل تطويعه ليكون تحت إمرتها وخدمتها. لكنّ بريغوجين رفض العرض، وحاول في حينه التمايز عن الجميع من خلال إثبات أنّه مستقلّ وصاحب قراره، فترك الجبهات كلّها، بينما حلّت مكانه “قوات أحمد” الشيشانية المتفوّقة عليه بالعديد والعتاد والتدريب بإشراف الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، الذي عارض ما يفعله بريغوجين بشدّة مع بداية تكشّف الخلافات، وقال إنّ كلّ ما يحدث هو “سكّين في الخلف” وما يشبه “التمرّد العسكري الحقيقي”.
أمّا اليوم فيقول قديروف: “لقد حذّرت مراراً وتكراراً من أنّ الحرب ليست التوقيت المناسب للتعبير عن المظالم الشخصية وحلّ النزاعات في الخلفيّات، التي يجب أن تكون دوماً هادئة وموثوقة”، داعياً الشعب والجيش وقوات الأمن والمحافظين والسكّان المدنيين إلى الالتفاف حول “القائد الوطني” بوتين.
بالفعل غادر مقاتلو وزارة الدفاع والحرس الروسي في جمهورية الشيشان إلى مناطق التوتّر مع أوكرانيا، قبل أيام، وقال قديروف: “سنفعل كلّ شيء للحفاظ على وحدة روسيا وحماية دولتها”، داعياً إلى سحق التمرّد، حتى لو تطلّب ذلك “إجراءات قاسية… فنحن جاهزون”.
تطهير الجيش
– السيناريو الثاني: يتحدّث عن عملية تطهير واسعة لقيادات الجيش من الضباط “الفاشلين”، أصحاب الرتب الكبيرة وذوي الخبرات المعدومة، الذين قال عنهم الرئيس بوتين قبل أسابيع إنّهم مثل البلاط (الباركيه) تنتفع منهم من خلال الدوس عليهم فقط.
هذا التطهير مردّه إلى الخبرات الكبيرة التي اكتسبتها القيادة العسكرية الروسية في حربها بأوكرانيا حيث تعلّم الجيش دروساً قاسية اضطرّته إلى فرز القيادات وإجراء تشكيلات عدّة مكّنته من تحديد “الصلب” من بينها، وتمييزها عن “الصدِئ”.
وعلى هذا الأساس، يرجَّح أن تكون تحرّكات بريغوجين شبه بداية لتنظيف الجيش والتخلّص من الأعباء البشرية. خصوصاً أنّ ما يطالب به بريغوجين ليس انقلاباً على القيادة السياسية، وإنّما تصحيح الأخطاء الصادرة عن القيادة العسكرية ووزارة الدفاع، فهو دعا إلى استبدالها بالأكثر كفاءة، وهذا ما يتقاطع 100% مع ما قاله بوتين في حينه، خصوصاً أنّه يمكن ملاحظة كيف استطاع بريغوجين السيطرة على مطار مدينة روستوف ومراكزها العسكرية، من دون أيّ معارك مع الجيش الروسي الذي أكد أنّ العمل في المطار يسير كالمعتاد والطلعات الجوّية المتوجّهة صوب الميدان في أوكرانيا تُسيّر من دون تدخّلات من “فاغنر”.
تقول مصادر “أساس” إنّ الكرملين بدافع التفاوض مع بريغوجين والوقوف عند طلباته أرسل إليه نائب وزير الدفاع الروسي يونس بيك يفكورف، وهو الرئيس السابق لجمهورية إنغوشيتيا المعروف بحنكته وخبرته العسكرية العالية وأحد أقوى الجنرالات الروس (مقرّب من الكرملين ومن قديروف).
المطلوب “نفض اليد”
– السيناريو الثالث: هذا السيناريو لم تتحدّث عنه وسائل الإعلام الروسية ولا حتى الغربية، ويقول إنّ “فاغنر” شركة خاصّة أُنشئت لتنفيذ عمليات عسكرية “خارج الحدود”. مع انطلاقها لم تعترف روسيا بأنّها تابعة لها، وذلك لعدّة أسباب، منها القانوني والسياسي والعسكري.
كانت “فاغنر” تضرب في سوريا وليبيا وفي السودان أيضاً. تهيمن سياسياً أينما وُجدت وتستفيد من مقدّرات كلّ بلد تهبط فيه بالتنسيق مع الأنظمة التي تساعدها.
صارعت الأوروبيين في القارّة الإفريقية، فطردت الفرنسيين من دول عدّة، وكانت السلطات الروسية بحلّ من أيّ مسؤولية عن أيّ فعل ترتكبه “فاغنر”. لكن مع بدء “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، ثمّ تعثّر الجيش في الأيام الأولى للعملية، كان لا بدّ من خطّة بديلة تعطي الجيش فترة سماح أو استراحة من أجل إعادة تنظيم الصفوف وترتيب الخطط، وخصوصاً وقف استياء المواطنين الروس من فرض التجنيد.
كلّ هذا دفع بالقيادة الروسية إلى الاستعانة ببريغوجين ومجموعته “فاغنر”، التي وُضعت في المقدّمة. ولأنّ الضرورات تلغي المحظورات، اعترفت روسيا علناً بتبعية “فاغنر” لها.
أمّا اليوم فقد انتهى دور “فاغنر” مع انتهاء مهمّتها في أوكرانيا، ويفترض أن تعود المجموعة إلى ما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا، ولهذا لا بدّ أن تخرج مجدّداً من “عباءة الكرملين” لتعود “فرقة ضالّة”، لا سلطة عليها ولا رقيب من أحد.
هكذا قد تعود “فاغنر” مجموعة “إرهابية”، فيُرفع عنها الغطاء وتُراكَم بحقّها الدعاوى، بل يمكن أن يُحكم على رئيسها بريغوجين بالسجن لسنوات عدّة، فيفرّ إلى الخارج ليكمل ما كان قد بدأه، فتعود “فاغنر” إلى ممارسة مهامّها كـ”شركة خاصة” لا علاقة لها بالدولة الروسية… وهذا من بين السيناريوهات المطروحة.
كل هذه السيناريوهات تبقى تحت الاختبار خصوصاً بعد أن أعلن يفغيني بريغوجين أمس عن إعادة قواته إلى معسكراتها “حقنا للدماء”.
وأعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، دميتري بيسكوف، أمس عن إسقاط الدعوى الجنائية ضد قائد مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، مؤكّداً أنّ الأخير “سيغادر إلى بيلاروسيا”.
كتبها الصحافي نبيل الجبيلي لأساس ميديا