نصر الله للمتصالحين: سلامكم لا يعنيني!
“حزب الله” يريد الحرب ولا يريدها، فهو لا يستطيع البقاء خارج الميدان خشية الطعن بمبرر سلاحه، ولا يستطيع العيش داخل الميدان خشية الوقوع في حرب قد تجري خلافاً لتوقعاته وحساباته وتحالفاته.
و”حزب الله” يريد المصالحة العربية مع كل من طهران ودمشق ولا يريدها أيضاً، فهو لا يستطيع البقاء في سوريا مخالفاً الارادة العربية ولا يستطيع الخروج منها خالي الوفاض ليواجه بيئة تكبدت مئات القتلى في حروب بدأت عقائدية وانتهت عبثية.
هذا في قراءة سريعة، ما يمكن قوله حيال ما جرى على الجبهة الشمالية، حيث تلطى خلف حركة “حماس”، لتوجيه رسائل صاروخية من لبنان نحو اسرائيل بالتزامن مع لقاء وزيري خارجية السعودية وايران في بكين، ومن سوريا عشية قمة الرياض، أعقبهما برسائل أخرى عبر “اليونيفيل” والأمم المتحدة وفرنسا يستبعد فيها رغبته في القتال.
وهذا أيضاً، ما برز في خطاب حسن نصر الله غداة الاشتباك الفلسطيني – الاسرائيلي، وهو الخطاب المقتضب الذي بدا فيه مربكاً الى الحد الذي لم يجد كلاماً يوضح ما جرى أو يبرر ما جرى أو يتبناه من قريب أو بعيد، مفضلاً شراء الوقت في انتظار ما تتكشف عنه الأيام القليلة الماضية وما تحمله الأخبار من اليمن والرياض وطهران ودمشق وواشنطن.
وتكشف مصادر قريبة من الضاحية الجنوبية، أن الهدوء الذي طغى على خطاب نصر الله لم يكن الا محاولة للتنصل من أي مبرر علني يدفع الى الحرب الواسعة أو الشاملة، في وقت تحاول الدول العربية لملمة الأوضاع المتشنجة في المنطقة، وفك الطوق الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي وحتى الأمني عن ايران، مشيرة الى أن الرجل انما حاول إفهام من يعنيه الأمر أن أي محاولة لتغييبه أو تحييده أو تقييده لن تكون بالسهولة التي يظنها البعض.
وتضيف: ان نصر الله لم يهضم بعد حصول المصالحة السعودية – الايرانية من دون علمه، هو الذي كان يوحي للأقربين والأبعدين أن شعرة لا تقطع من رأس ايران من دون علمه، وأن أي رصاصة لا تطلق في المنطقة الا من سلاحه.
كما تكشف المصادر عينها أن نصر الله، خلافاً لما حدث عشية “حرب تموز”، كان يبحث عن “خضة أمنية” محدودة وخاطفة لا يكون واجهتها، لا عن حرب واسعة يكون سببها، خوفاً من رد اسرائيلي عنيف قد يأتي على ما تبقى من رصيده الشعبي في لبنان، وعلى ما تبقى من مقومات الحياة فيه، فسارع الى التواصل مع قنوات مشتركة لتهدئة بنيامين نتنياهو، الذي سارع بدوره الى لجم اندفاعته والاكتفاء بضربات من باب رفع العتب في قطاع غزة ومواقع هامشية في محيط صور وأخرى عسكرية في محيط دمشق.
وتضيف المصادر: ان نصر الله تمكن من الظهور بمظهر من يدافع عن حرمة المسجد الأقصى وحقوق المسلمين في القدس، وهيبة الممانعة في سوريا، اضافة الى توحيد الجبهات مستنسخاً حرب العام ١٩٧٣، في وقت كانت طهران ودمشق تطبعان علاقاتهما مع دول تصالحت مع اسرائيل، في حين تمكن نتنياهو من لملمة الوضعين الشعبي والحكومي وتوحيد الاسرائيليين حول أمن البلاد، فبدا الأول وكأنه “صلاح الدين” الجديد وحامي الأمة وبدا الثاني وكأنه “ارييل شارون” الجديد ومنقذ الدولة.
وانطلاقاً من هذا المشهد، الذي لم تتبناه ايران علناً أو جدياً على الأقل، وانطلاقاً من بنود التقارب الايراني – السعودي الذي لم يتطرق الى أي صراع مسلح مع الدولة العبرية، يجمع الكثير من المراقبين الاقليميين والدوليين على أن “حزب الله” يشعر بأن ما يجري في الاقليم قد يأتي على حسابه وليس لمصلحته، وهو ما يفسر امتناعه عن الاشادة الجدية بما جرى من عمليات تطبيع ومصالحات، والتزام تحفظات تشبه من في فمه ماء.
والواقع أن ما يشعر به حسن نصر الله يحمل الكثير من الصحة، وهو العارف تماماً أن منظمته باتت في حسابات الدول الكبرى خطراً أمنياً يضاهي أو يتجاوز الخطر الايراني نفسه، وأنه بلغ من الانتشار ما يستوجب تطويقه، وأنه بلغ من القوة ما يستوجب تقليم أظافره، منطلقاً على الأرجح من مسار التاريخ القديم والجديد الذي كان دائماً يأتي على حساب من يخسر الحرب في مكان أو من تنتفي الحاجة اليه في مكان آخر.
أليس هذا ما حدث بعد “اتفاق الطائف” في لبنان، وما حدث عندما تخلى الرئيس حافظ الأسد عن زعيم “حزب العمال الكردستاتي” عبد الله أوجلان لمصلحة تركيا، وعندما تخلى السودان عن “كارلوس الارهابي” لمصلحة فرنسا، وعندما تخلت فرنسا عن شابور بختيار لمصلحة ايران، وعندما تخلت أميركا عن “القوات اللبنانية” ورئيسها سمير جعحع لمصلحة سوريا؟
وقائع يعرفها حسن نصر الله جيداً، ويعرف أن ايران التي لم تضغط لدى السعودية علناً على الأقل، لتمرير مرشحه الرئاسي الوحيد سليمان فرنجية، لن تتمكن من الوقوف مجدداً على قدميها الا من خلال تنازلات جدية وجوهرية تقدمها في أكثر من مكان ولا سيما في لبنان الذي حوّله “حزب الله” الى القاعدة التي ينطلق منها المقاتلون الشيعة والعرب نحو سوريا وغزة والعراق واليمن والبحرين وصولاً الى أوروبا وأميركا اللاتينية.
وهنا لا بد من السؤال، هل نجح “حزب الله” في تحذير من يجب تحذيره أو في مراضاة من يجب مراضاته، وهل فهمت ايران ما يريده الرجل بحيث تراعيه أو تجافيه، وهل فهمت اسرائيل ما أراده فعلاً بحيث تتبادل معه الخدمات في منطقة أو تتبادل معه الضربات في منطقة أخرى؟
أسئلة كثيرة، لا تبدو أجوبتها واردة في المدى المنظور، لكنها ستأتي حتماً بعدما يتمظهر الحل النهائي بين الحوثيين وأهل الخليج، وبين الرئيس بشار الأسد وكل من المعارضة وتركيا، وبين تركيا والأكراد في العراق وسوريا وايران، وبعد ابرام اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن، وبعد انحسار التوتر الدولي الذي أعقب الحرب في أوكرانيا.
انه الشرق الأوسط الجديد الذي تحاول الصين وروسيا بناءه بالتعاون مع ايران والعرب على حساب الأميركيين الذين استدركوا الأمر وانتقلوا من سياسة “كبس الأزرار” الى وضع الاصبع على الزناد من خلال تعزيز قواتهم البحرية في الخليج ووضعها في حال استنفار وتأهب استعداداً لأي مواجهة قد تكون مع ايران وميليشياتها، أو قد تكون دفاعاً عن أمن اسرائيل العالقة بين صواريخ الخارج المنطلقة من منصات “حزب الله” و”حماس” ومقاومات الداخل الموجهة من الاثنين معاً.
انها في الحصيلة مرحلة الملفات التي توضع جميعها على الطاولة من دون استثناءات ومن دون رؤوس كبيرة أو حامية، وحتى من دون غطاءات لأحد مهما عظم شأنه واشتد ساعده.
من هنا يمكن فهم ما قصده الامام خامنئي عندما قال ان بلاده لن تسمح للمتشددين بخربطة المصالحة السعودية – الايرانية، ومن هنا يمكن التوقف عند اعلان حسن نصر الله في خطابه الأخير أنه سيتطرق الى ما جرى في الجنوب الأسبوع المقبل اذا “بقي على قيد الحياة” وهي من المرات النادرة التي يلمح فيها الى مثل هذا الأمر حتى في عز “حرب تموز”.
وهنا لا بد من سؤال بديهي: هل قصد خامنئي “حزب الله” من بين هؤلاء المتشددين أم أن هناك خلايا أخرى داخل ايران وخارجها تلعب بعيداً من السرب، وهل تذكر حسن نصر الله ما أصاب قاسم سليماني أم أن ما قصده لم يكن الا نوعاً من الدعاء الذي اعتاد عليه المقيمون في دائرة الموت المتربص؟
حتى الآن، كل الاحتمالات واردة سلباً وايجاباً وكل التفسيرات قابلة للتعديل، واحتمال توزيع الأدوار بين ايران التي تسالم في مكان وتعادي في آخر أمر ممكن ومعقول أيضاً، ويبقى أن ننتظر قليلاً لنعرف ما لدى الرجل من كلام لم يقله بعد، وما لدى قمة الرياض المقبلة من مبادرات لم تعلن بعد.
المصدر: لبنان الكبير.
