على غرار المطاعم.. هل تسعّر السوبرماركت بالدولار؟
كأن المشهد اللبناني لا يتبدّل؛ أزمات متكررّة، متتالية ومتشابهة. الصورة لا تختلف، فكلّما ارتفع الدولار تختفي السلع أو يطلق عنان الأسعار.. اللبنانيون عالقون بين مطرقة الدولرة وسندان سعر صرف الليرة المنهار! وبالرغم من محاولات كسر حلقة “التسعير” والخروج من دوامة “الانزلاق الكبير”، لا متغيّر يُذكر ولا جديد يطرأ في الأسواق سوى استمرار تزايد معدّل تضخّم الأسعار؛ وكلّ قفزة للدولار تقضم جزءاً من سلّة السلع الغذائية التي لا تزال تسعّر بالليرة اللبنانية وتتأثّر بشكل مباشر بـ”لعبة الأخضر”، فهل تعاد تجربة الثمانينيات، وعلى غرار المطاعم، تدولر السوبرماركت أسعارها؟
التّسعير بالدولار.. لمصلحة مَن؟
التّسعير بالدولار يخدم المستهلك والتّاجر، ففي الثمانينيات وبعد أن تخطى ارتفاع الأسعار الـ487% تزامناً مع انهيار سعر صرف العملة الوطنية، لجأ التجّار لاستخدام الدولار كعملة دولية ثابتة تسهّل لهم التبادل التجاري من دون الحاجة الى التغيير اليومي للأسعار. هذا التوجّه آنذاك لم ينتج عن قرار رسميّ، إلّا ان ايجاز التسعير بالعملة الصعبة للمؤسّسات السياحيّة في الأشهر الماضية، جدد مساعي أصحاب السوبرماركت للحصول على “إذن” مماثل على أن تصدر الفاتورة النهائية بالليرة اللبنانية وما يعادلها بالدولار الاميركي في السوق الموازية.
صاحب إحدى أكبر السوبرماركت ومراكز التسوّق في الشمال، يرى أنّه “نظراً للظروف الإستثنائية التي تمرّ بها البلاد وتقلّب سعر صرف الدولار المستمرّ والذي حطّم أرقامه القياسية السابقة بتخطّيه عتبة الـ51 ألف ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي في السوق الموازية، لا بدّ من اللجوء لعملة آمنة تقي التجّار الخسائر الناتجة عن القفزات المفاجئة لهذه العملة والهبوط اللاحق لها في السوق الموازية”.
ويستشهد التاجر في حديث لـ”لبنان 24″ بما حصل عام 1987، معتبراً أنه “الحلّ الأمثل حالياً، فالأسعار في السوبرماركت تحدّد وفقاً لجداول تصدرها الشركات المستوردة للتجار، علماً أن هذه الشركات تستوفي ثمن البضائع “فريش” وبالتالي أي تبدّل في سعر الصرف يفرض تعديلاً في أسعار السلع والمواد الغذائية”. ويستكمل كلامه مؤكداً أن “عندما يأخذ الدولار مساراً تصاعدياً ترفع الأسعار، كما أن تراجعه يوجب انخفاضاً ملائماً”.
وعن إمكانية الدفع بالبطاقات المصرفية بالليرة اللبنانية، يؤكّد أن “هذه الطريقة لا تزال مقبولة ومعتمدة”، لافتاً إلى أنه “يقبل الدفع بالبطاقة الكلفة الكاملة للسلة في أيام محدّدة من الأسبوع، وفي ما تبقى يتمّ التسديد 50/50”.
الحال شبيهة لدى أصحاب المؤسسات التجارية الصغيرة “الدكاكين”، غير أن الضغوط تتزايد عليهم يوماً بعد يوم مع تواصل انهيار الليرة. ويوضح جهاد، مالك محلّ سمانة، أنّه “لم يعد يبحث عن الربح في تجارته وكل ما يريده هو عدم الخسارة والحفاظ على رأسماله”، مستغرباً عدم تفهّم المستهلك للواقع التجاري “يحاسب بالدولار لدى شراء الملابس والخرضوات ومجمل السلع “وقفت ع المواد الغذائية”؟ أليست أيضاً بمعظمها مستوردة؟”.
ويفسّر الرجل شاكياً: “إن كانت قيمة المواد الموجودة في المحل تبلغ بالمجمل 10 الأف دولار أميركي، وعند تقلّب الدولار لم أغيّر التسعيرة وابتاع الناس حاجاتهم وفقاً للسعر القديم، لدى طلب كمية جديدة من المواد سيسعّر المستورد أو تاجر الجملة بما يوازي سعر السوق، عندها ما أفعل؟ أحصل على “طلبيّة” أقل من المعتاد ولاحقاً على كمية متضائلة أيضاً إلى أن أصل الى مرحلة لن أتمكن فيها من تعبئة محلّي مجدداً.
الرجل يتنهّد قليلاً ويتابع: “أفضّل إقفال المؤسسة على الاستمرار بالخسارة”. ويضيف: “هذه المصلحة أعالت عائلة كبيرة في ما مضى، اليوم نحاول جاهداً تجنّب الخسائر؛ فبالإضافة الى أزمة العملة هناك كلفة الكهرباء ومازوت مولّد الطاقة ناهيك عن إيجار المحل وكلفة اليد العاملة لمن لديه”.
المستهلك والدولار.. والتضخّم
التّسعير بالدولار إذاً “يلائم” التجار، فماذا بشأن المستهلك؟ مصادر مطلعة لـ”لبنان 24″ تؤكّد أن المستهلك قد يكون الفائز الأكبر في حال وضعت الأسعار على رفوف السوبرماركت بالدولار، إذ أنها ستبقى ثابتة مهما حصل في سعر الصرف ولن تشهد كما هو جارٍ تبديل في كل حين، تحت ذريعة شراء السلع على سعر مرتفع للدولار. بمعنى آخر التسعير بالدولار يحمي المواطن من “تحايل التجار وتضخّم الأسعار”.
فمنذ ثلاثة أعوام، يشهد لبنان تزايداً بمعدّل التضخّم الذي بلغ 171.21 في المئة عام 2022 بعدما كان 154.8 في المئة عام 2021 و84.9 في المئة في الـ2020، بحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي.
وأظهر آخر جدول لأسعار السلة الغذائية الصادر عن المكتب الفني للأسعار في وزارة الاقتصاد، ارتفاعاً عامّاً في الأسعار بنسبة 3.3% في الأسبوع الأول من العام 2023 مقارنة بالأسبوع الأخير من السنة المنصرمة.
وفي مقارنة مع أسعار نفس الفترة من الـ2022، بيّنت الأرقام الجديدة أن معدّل أسعار مبيع منتجات الحليب والبيض ارتفع بنسبة 133%، نتيجة ارتفاع معدل سعر الحليب البودرة 195% وجبنة القطع 162% واللبنة 130% والجبن الأبيض العكاوي 127% وقشقوان البقر 99% والبيض 68%.
أيضاً، شهدت أسعار مبيع المنتجات الدهنيّة والزيتية (الزيوت، الزبدة، الطحينة، الحلاوة) ارتفاعاً بلغت نسبته 107% مقارنة بالعام الماضي، كما زادت أسعار مبيع المعلّبات 72%، الشاي 148%، السكر 111%، البن المطحون 67%، المعكرونة 49% والملح 40%.
قانونياً، التسعير بالدولار ممنوع بموجب قانون حماية المستهلك، وتاجر “المفرّق” ملزم بالتسعير بالليرة اللبنانية، هذا ما تؤكّده المصادر المتابعة لحركة السوق والتي تشير الى قرار وزير السياحة وليد نصّار الاستثنائي، معتبرة أن قراراً مماثلاً لوزير الاقتصاد قد يحدث فرقاً لناحية ضبط التلاعب بالأسعار، كما قد ينهي ظاهرة الرفوف الفارغة.
إلّا أنها تستبعد إقدام الوزير على مثل هذه الخطوة، نظراً لتقاضي المواطنين وبخاصة موظفي القطاع العام رواتباً بالليرة اللبنانية وأي ارتفاع كبير جديد للدولار في السوق الموازية قد يكلّف هؤلاء قوتهم الأساسي وبالتالي قد تتسبب دولرة السلّة الغذائية بتفقير وتجويع فئات كثيرة من اللبنانيين، في وقت كشفت التقارير الدولية ان حالة انعدام الأمن الغذائي في البلد مقلقة، متوقّعة المزيد من التدهور في الأوضاع خلال الأشهر المقبلة.معالجات “غير مجدية”
أمّا رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو، فيؤكّد لـ”لبنان 24″ أن “الحلّ لضبط الأسعار يكمن بعلاج المشاكل الرئيسية التي أوصلت لبنان لما هو عليه الآن من فوضى وتسيّب، عبر إعادة الاستقرار السياسي وإحداث منافسة في السوق وتثبيت سعر الدولار”، مشيراً إلى أن هذا الأمر يتطلب سياسات اقتصاديّة غير متوفّرة اليوم في البلد.
ويحذّر من أن “عدم معالجة الأسباب الرئيسية قد يؤدي الى تفاقم المشاكل وقد نشهد اختفاء سلع من المتاجر كما انتشار سلع أخرى قد تكون غير مطابقة للمواصفات الغذائية”، لافتاً الى ظهور منتجات لبنة في الأسواق أظهرت التحاليل المخبريّة أنها “مغشوشة”.
وعن المعالجات المتّبعة من قبل وزارة الاقتصاد كتحديد “الهامش الربحي” للتجار، يعتبر بروّ أنه لم يلتزم بها أحد ولم توصل الى نتيجة، شأنها شأن “الكبسات” على المحال التجارية “.
منذ الثمانينيات و”متلازمة الدولار” تلاحق اللبنانيين، الأزمات تعيد نفسها والكلّ شاهد على الفيلم الطويل وعلى الإجراءات “الترقيعية” التي زادت الطين بلّة! مرّ الوقت والصورة تزداد سوداوية، بانتظار الإصلاحات البنيوية التي تؤسس لاقتصاد جديد قائم على خطط تنموية ومستدامة.. عسى أن ألّا يطول الانتظار!