ليلة الإغتصاب…!
على الرّغم من عمرها الضارب في التاريخ، وعلى الرغم من كل محاولات الغزاة، والمنتدِبين، ومساعي الاحتلال لإغوائها، الا أنّها تسلّحت بالسّتر، قابض عذريّتها، على فطرتها، على براءتها. تصدّت للجميع، بما أوتيت من عناصر مقاوِمة، محبطة كل محاولات تدنيسها، بعد أن نذرت نفسها لأهلها ولمنطقتها، وبقيت بعيدة من الاضواء والضوضاء.
10/9/2022، يوم نامت عيون الشمس، قبل أن تشحذ القمر بعض بصيصها، مروا فوق أسرّة النائمين في جرجوع، كانت أقدامهم العجلة، تتفنن في سحق حاضرهم، وتستمتع في تهشيم ما تبقى من أمل بغد أفضل خبأوه في خوابيهم، بعيدا من متناول لصوص الفساد.
صمت الجميع، حتى البوم توقّف عن النعيق يومها، عبروا باتجاهها تحت أجنحة الظلام، خلعوا بوحشيّة رداءها القدسي المعتّق بحكايات الأمّهات، بروائح المزارعين، بحكايا الطفولة، وألبسوها ثوبا خرسانيا، لا يشبهها.
ما فعلوه ليس عبثيا، بل هم أرادوا ان يتركوا ندبات لا تمحى، ليبقى وجهها شاهدا على أن سياسة المال والأعمال هي اللاعب الأوحد هنا.
لم أكن هناك، كنت بعيدا جدا، لكن يخال لي أن أحدهم، من على إحدى ضفتي النهر، كان يلفظ دخان سيجاره الكثيف، مطلقا ضحكة حانقة تشقّ سكون الليل، وتطغى على أصوات المعاول، تحوّلت الى كليشيه في الأفلام المصرية قائلا “حتّة عيال حا يوقفّولي المشروع، لو ما مشيش المشروع، أنا طربق الدنيا”.
قال أحدهم، لقد استغلّوا نومنا ليستفردوا بها، فرددت مخاطبا نفسي، لو كنا هناك جميعا، بهواجسنا، كانوا سيمروا بجرافاتهم فوق أجسادنا، ونحن نراقبهم يسدّون شرايينها بالإسمنت، بينما يضعون العمّال في وجه اهلهم وأقاربهم.
من تسلّل ليلا، ليستكمل حشو نبع الطاسة بالإسمنت، قافزا فوق هواجس وجودية، وفوق تساؤلات مشروعة، وفوق حرص مسنّ أو مسنّة، أو شاب متحمّس، حتى لو كان مبالغا فيه، حتى ولو كان استعراضيا، لكنه حقّ ومشروع، وقد يحتمل الصواب، بجزئيات مختلفة في علم الاحتمالات، في مشروع، أعظم مطالبنا حياله، كانت الإستحصال على خطط ودراسات، تضمن الحفاظ على مياهنا، وتراثنا، وتكفل الحفاظ، على آخر ملاذاتنا الآمنة.
استكثروا علينا دراسة ومخططا، لم يتكبدوا عناء الانتظار، لم يبدوا حماسة لأي تعديل يحافظ على طبيعة النهر وشكله، لطّخوا وجه نبع الطاسة بالباطون، غرسوا الحديد في احشاء نهرنا، أجروا له قسطرة ليليّة بلا بنج، وبلا اي دراسة للآثار.
يقول المؤتمنون على المشروع أنهم يريدون ان يجروا المياه الى باقي القرى، ويضعون تساؤلاتنا في خانة رغبتنا بحرمان قرى الجوار من المياه.
نحن أبناء الجنوب، شركاء الدم والقهر والظلم، شركاء التضحية والصمود، شركاء التصدي والمواجهة، هل يعقل ان يكون بيننا، من يرتضي أن يشرب، وجاره عطشان، لكن كنّا نطمح بسذاجة مفرطة، بعد كل هذا الانهيار، بعد كل هذا التيه، أن نرتكز في نظم أمورنا الى العلم، الى الدراسة، الى الهندسة، الى البحث والتخطيط الدقيق، عوضاً من الترقيع، وسياسة الاولويات العشوائية.
عدو الخارج يمكن أن تواجهه، حتى آخر قطرات العروق، لكن عندما تأتي الرصاصة من قريب تكون أشد قتلا، وفتكا،
قد يمر مشروع نبع الطاسة، ما دام الناس قرروا، التنازل عن حقوقهم، وقد يذهب صراخنا في الهواء، لكن هذه الارض مقدّسة، بما عليها، وبما في جوفها، وبما تحتها.
لسنا في موقع المزايدة، ولا البحث عن تسجيل النقاط، هذه أرضنا، وإرث أجدادنا، ووجه أمهاتنا، وكدّ أبائنا، وروضة أطفالنا. تسلحنا بالمناشدة والقانون وحرصنا البريء، أمّا بعد، فليتحمّل كل من أيّد واستشرس في الدفاع ودعم وسكت عن مرور مشروع بهذا الحجم، من دون دراسة، المسؤولية أمام الله، والتاريخ، والحاضر المستقبل.
ليتنا نكون على خطأ، وقاربنا الأمر بجهل، لكن يوماً ما، في حال تحوّلت جرجوع وعربصاليم والوادي الاخضر الى منطقة جرداء، أخبروا أطفالنا، أنّنا حاولنا، ولكن خُذلنا، وحُمّلنا وزر ما لا نطيق حمله.
إبراهيم درويش_العربي المستقل