بين 13 تشرين 1990 و30 تشرين 2022… بلد على آخر نفس!
««حفرة نفرة»». هكذا كانت الرابيه البارحة. وموحشة بدت جادة القصر الجمهوري قبل أقل من 48 ساعة على مغادرة الرئيس عون. سيعبر ««فخامته»» غدا الأحد من بعبدا الى الرابيه، بين قصر بعبدا وفيلا الرابيه، وبين بين ماذا يدور يا ترى؟ هل استعدّت البلدة المتنية لاستقباله بعبارة: الرابيه بتحبك؟ وهل هناك وجه شبه ما، في مكان ما، بين خروج ميشال عون من القصر في 30 تشرين الحالي وخروجه منه في 13 تشرين الغابر؟
…ومشينا الدرب. مشينا الدرب بين القصر والفيلا قبل ثلاثين ساعة من عبور «فخامتو» بين المحطتين. سيغادر بعبدا نهائياً إلا إذا فاجأنا كما أحبّ بعض العونيين أن يسربوا: «عون راجع… ع بعبدا». ولطالما كان الجنرال يتباهى بأن «العالم» أطلق عليه صفة unpredictable،أي لا يمكن التنبؤ بما قد يفعله. 35 عاما واللبنانيون يعيشون على هواه: عون راجع. عون رجع. عون سيرجع. فماذا عن عبوره الى المحطة المقبلة؟
معك مكملين
في الحدث يافطة: الحدث بتحبك. وما عداها ملصقات على بعض الجسور: معك مكملين. معه سيكملون هم. يصطفلوا. البلد وأهله في مكان وهم في مكان آخر مختلف تماماً. أهل البلد في همومهم وهم في «عونك جايي من الله». نقطع الدرب بين المحطتين. يافطة عند سراي بعبدا عليها صورته مذيلة بعبارة: «ملئ الثقة بالعهد». والمقصود «ملء» هناك من علقها في «نصاص الليالي» وغادر. جادة القصر الجمهوري هادئة وأصوات «الزيز» تصدح مزعجة. التصوير ممنوع حتى آرمة: القصر الجمهوري. أسلاك حديدية مركونة بين الأغصان إستعداداً ليوم غدٍ الأحد. لا سيارات دبلوماسية «طالعة نازلة». القصر الجمهوري استراح الجمعة من عجقة الترسيم يوم الخميس. وفخامته يوضب ربما آخر أمتعة ينوي نقلها الى المقرّ الجديد. أو يفكر بآخر دفعة أوسمة.
يافطة عند جسر الحازمية – بعبدا: «معك مكملين». ننزل في اتجاه الأوتوستراد الى الرابيه. نمرّ عبر جادة العماد إميل لحود. وعلى طول الجادة عبارة «ل ما تاكل الضرب نقي صحّ». هو إعلان لكنه مناسب.
على جسر مشاة برج حمود تكررت العبارة: «مكملين معك». وعلى جسر نهر الموت وجسر جل الديب. خوري هوم وضع زينة الميلاد. لا أعلام لبنانية على طول الطريق ولا صور باستثناء صورة كبيرة في عمارة شلهوب، على مبنى العمارة بالتحديد، لميشال المرّ، تلوح للمار بوضوح على الأوتوستراد الساحلي. أعمدة الكهرباء في نصف الأوتوستراد خالية أيضا من كل ما يمت الى يوم العبور من القصر الى الفيلا. هي خالية من كل كل شيء حتى الكهرباء.
ممنوع التصوير
نفرق من أمام فلافل أبو أندريه في اتجاه أنطلياس صعوداً نحو الرابيه. الناس في همومها. صهاريج تعبئة المياه كثيرة. وصولد على أسعار البندورة. الكيلو الواحد بتسعة آلاف عند المفرق. وعلى الطريق صور للعذراء سلطانة الوردية وعبارة: بتلاوة مسبحتي أبارك بيوتكم. نتلو المسبحة متناسين ولو للحظات كل الأحداث والتفاصيل الأرضية.
على جسر الرابيه تتكرر العبارة: «مكملين معك». همهم غير هموم لبنانيين كثيرين. نتجه صوب شوارع الرابيه المرقمة. فيلا فخامتو في الشارع رقم 17. لا علم ولا صورة ولا بشر. الفلل على الطريق فارغة من أصحابها الذين هشلوا منها الى رحاب الدنيا هرباً من جهنم الحمراء اللبنانية. حاجز جيش لا عناصر عليه. وعسكري يتكئ على جذع شجرة ينفث سيكارة علّها تنجلي. نتابع مسارنا عبر جادة شكري حنا شماس. الهواء هنا عليل سيعجب على الأرجح فخامتو. نقترب أكثر. نقترب من حرم فيلا فخامتو لكن حجارة الباطون تمنعنا من المتابعة. وحاجز يقف الى جانبه دركي، بالقرب من حائط عليه لُصقت صورة قديمة لميشال عون، كان يضج شباباً. هي صورة قديمة قبالة الفيلا القديمة التي سكنها يوم رجع من بلاد الأم الحنون. يأمرنا العسكري بالمغادرة مع إنذار واضح بعدم التصوير. نستدير بمركبتنا ونعود أدراجنا بتأنٍ خشية السقوط في الريغارات المفتوحة في المكان. ثمة ورشة تقوم بها شركة الكهرباء وعمال فتح المجارير وأوجيرو. يبدو أنها أعمال تستبق وصول الرئيس… السابق.
نبحث عن آرمة، تشبه تلك التي رأيناها في الحدث، تخبر المارة بالعشق المعلن لفخامتو من خلال عبارة: «الرابيه بتحبك» فلا نجدها في كل التفاصيل. تُرى التيار العوني في مكان والرابيه في مكان آخر؟ نقصد بلدية البلدة النموذجية علنا نسمع عن آخر التحضيرات. ندخل الى حرمها فنشاهد اربعة أو خمسة عمال أمام أكياس أعلام لبنانية وعصي، يضعون كل علم في عصا، وهم يرتشفون بين فينة وأخرى بلعة قهوة. التصوير ممنوع. ينذرنا شرطي بلدي. نسأل عن المسؤول وندخل للحديث معه. ذكر الاسماء ممنوع وتصوير الوجود أيضا ممنوع. نذعن ونكتفي بالسؤال: كيف تستعد الرابيه لملاقاة رئيس الجمهورية في آخر ساعاته قبل أن يصبح رئيساً سابقاً؟
إستنفار بلدي…وجمهوري
دور بلدية الرابيه يوم الأحد، في الثلاثين من تشرين، المحافظة على صورة البلدة الناصعة الجميلة، لناحية النظافة. دورها رفع مستوعبات النفايات كل ساعتين، كي يرى الناس جميعا الرابيه على طبيعتها. والبلدية تتعاون حاليا مع من يريدون تعليق الأعلام ليل السبت – الأحد. وشرطتها ستكون حاضرة لمنع وقوف السيارات على الجانبين وسيكون حاضراً بين ستة وسبعة عناصر شرطة من قبلها على الطرقات طوال نهار الأحد.
هل سبعة عناصر بلدية تكفي؟ يجيب المسؤول «سينتشر الحرس الجمهوري في هذا النهار بكثرة كون ميشال عون فيه لا يزال رئيساً للجمهورية. أما دور الشرطة البلدية فهو منع إقفال الطرقات الرئيسية على المارة الذين لا يشاركون في الحدث. البلدية تتعامل مع ما سيحدث كما تتعامل مع أي حدث كبير big event ليس إلا. كما اتفقت البلدية مع بلدية المطيلب كون من سيخرجون من الرابيه سيمرون حتما في المطيلب. التنسيق بين البلديتين على قدم وساق وكلاهما قلب واحد.
نطمئن الى التقاء قلبي البلديتين الجارتين ونتابع الإصغاء الى استعداد بلدية الرابيه. هناك مدخلان يؤديان الى فيلا فخامتو. والبلدية أخذت على عاتقها تنظيف كل المستوعبات على المدخلين. وهي لم تتبلغ عن محطات سيتريث فيها ميشال عون أثناء الطريق وأحد المسؤولين فيها يقول: «نتمنى ان يفاجئنا فخامتو وينتقل في هيليكوبتر».
Big event سيكون نهار الأحد في الرابيه وهو مشابه، على حدّ قول أحد العاملين في البلدية مع الحدث الذي جرى يوم زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السيدة فيروز «يومها كانت نسبة الأخطاء صفر». نأخذ الإذن بتصوير الأعلام اللبنانية من بلدية الرابيه شرط عدم تصوير وجوه العاملين ولا المناطق التي أتوا منها، غير أن أحد العاملين «يدز» على زميله المنهمك في إدخال عصا في جيب العلم «هذا عكاري ويحمل الجنسية التركية».
إقتربت نهاية العهد. إقترب أن يصبح ميشال عون رئيساً سابقاً للجمهورية اللبنانية التي تحيا منذ أعوام في جهنم الحمراء. اللبنانيون، الذين عايشوا مغادرته بعبدا قبل 32 عاماً يراقبون بحذر مغادرته القصر غداً. هؤلاء لم ولن ينسوا، ما حيوا، لحظات الصفر تلك، ولا كل ما سبقها، ولا خراب المنطقة المسماة حينها الشرقية، كما لم ولن ينسوا حرب التحرير ثم الإلغاء ثم الإنتحار ولا تلك الأيام التي حوصر فيها القصر بعد حالة التمرد. يومها كان سمير جعجع ملتزما الصمت والصمت غالباً بطولة. يومها كل لبنان خرج خاسراً من العملية التي جرت في 13 تشرين عام 1990. فالسوري نجح لأول مرة، من زمان، في اقتحام المنطقة الشرقية بفضل عبثية جنرال. يومها اراد عون ان يكون رئيس حكومة الجمهورية الثالثة وحصل ما حصل واليوم يغادر بعد كل ما حصل القصر منهياً عهد رئاسة الجمهورية اللبنانية الثالث عشر.
في 13 تشرين ذاك كان آخر ما قاله ميشال عون «نحارب حتى النصر». واليوم يعد أنه «مكمّل» ويبتسم حين يسمع من يقول له «مكملين معك»، مع يقينه ان المعارضة التي يرغبها لا تكون إلا من داخل القصر لا من خارجه. وبين التاريخين، قبل واليوم، بلد على آخر نفس.
المصدر : الجمهورية.