الهجمات الأوكرانية المضادة: هل تنتزع شرق البلاد من الروس !؟
يَعِدُ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، منذ أسابيع، بهجوم مرتد لاستعادة القرم والمناطق التي احتلتها روسيا منذ دخولها الأراضي الأوكرانية في 24 شباط/فبراير 2022، محاولاً بذلك ما استطاع، حضّ الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على مدّه بالسلاح والعتاد قبل حلول فصل الشتاء.
لبّت واشنطن جزءا كبيرا من رغبات زيلينسكي التسلّحية، وأظهرت العمليات العسكرية للجيش الأوكراني تقدماً بدا سريعاً في الأيام الأولى لكنّه عاد إلى وتيرته البطيئة في عدد من المناطق، لكن الجزم بقدرة الجيش الأوكراني على الاحتفاظ بهذه المناطق، بقي أمراً محفوفاً بالمحاذير والشكوك، لأنّ الملف أعمق من تقدّم عسكري هنا وهناك، ويصعب اختصاره بعملية عسكرية يتيمة أو بمحور محدود!
الناظر إلى رقعة الشطرنج الأوكرانية، قد يصنّف روسيا دولة غازية، تحاول إلزام سكان شرق أوكرانيا بالتعامل مع الاحتلال بقوة السلاح، وأنّ هؤلاء السكان لن يتوانوا لحظة عن توجيه ضربات عسكرية للجيش الروسي متى سنحت لهم الفرصة بذلك. لكنّ الواقع الديمغرافي والثقافي والسياسي، مخالف تماماً لهذا الظنّ، وهو أمر قد لا يعرفه كثيرون.
كما أنّ الواقع الميداني يقول إنّ التسرع في الخروج باستنتاجات من صنف نجاح الجيش الأوكراني في استعادة تلك الأراضي، قد يبدو أمراً خاطئاً أو يبعث بالتضليل، وذلك لاعتبارات عدّة ربّما تغفلها وسائل الإعلام عمداً، أو نتيجة تسارع الأحداث في أحسن الظنّ، أو لضرورات تغطية المعارك العسكرية من دون الخوض في التفاصيل والترتيبات التي تتّخذها موسكو في شرق أوكرانيا.
في الشكل، فإن النزاع الروسي ـ الأوكراني حول شرق البلاد لم يكن وليد مطلع هذا العام، وإنما بدأ منذ العام 2013 يوم أطيح بالرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانكوفيتش، عبر «ثورة ملوّنة» قسمّت البلاد بين: غرب يفضّل التوجه نحو أوروبا، وبين شرق يتوجس من الابتعاد عن روسيا. رفض الشقّ الشرقي هذا التوجه، فأقسي من الحكم وعومل معاملة الغرباء. تعرّض لحروب، ثم خضع لاتفاق هدنة ووساطات برعاية دولية، ثم توقيع معاهدات (مينسك). ثم ما لبثت أن انهارت تلك المعاهدات وعاد الصدام والتقاتل… إلى حين دخول روسيا القرم في العام 2014.
بقي شرق أوكرانيا يترنّح بين مدّ وجذب بين الشرق والغرب، حتى شباط/فبراير الماضي يوم أعلنت روسيا عمليتها لتحرير كامل مناطق دومباس لحماية الناطقين باللغة الروسية.
في الأحداث الميدانية، فإنّ المراقب لمجريات الحرب منذ بداياتها، قد يُفاجأ كيف لسكان مناطق شرق أوكرانيا أن يفروا من القصف الشديد إلى الداخل الروسي، وليس إلى العمق الأوكراني الغربي. وهذا إن دلّ على شيء، فيدل على أنّ هؤلاء يرتاحون لروسيا وليس لدولتهم المركزية، ويعتبرون أنّ موسكو تدافع عنهم بالفعل، وإلاّ كيف يهرب اللاجئ إلى حضن «الدولة الغازية»؟
يضاف إلى ذلك، أن مجموعات كبيرة من هؤلاء السكان (من أصل روسي أو ناطقين بالروسية) كانوا وما زالوا منذ بداية الحرب، ينظمون صفوفهم ضمن مجموعات مسلحة، تقاتل إلى جانب الجيش الروسي للدفاع عن أراضيهم في مواجهة جيش أوكرانيا، الذي يُفترض أنهم جيش بلادهم!
أمّا لوجستياً، وفي مجال البنى التحتية، فإنّ روسيا منذ أن دخلت القرم في العام 2014، ثم دخولها إقليم دومباس مطلع هذا العام، لم تتوقف عن مساعدة سكان تلك المناطق، بخلاف أوكرانيا التي تتوعدهم بالمحاكمات والعقاب. إذ تكشف المعلومات المستقاة من الداخل الشرقي لأوكرانيا، أنّ تلك المناطق لم تتوقف عنها المساعدات الغذائية يوماً، حيث وزّعت هيئات المساعدة الروسية ما يصل إلى أكثر من 585 طناً من المساعدات، كما يلعب المتطوعون وموظفو المراكز الإنسانية التي ينظّمها حزب «روسيا المتحدة» دوراً مهماً في هذه العملية.
وزارة الطوارئ الروسية ورجال الإنقاذ يواصلون تنظيم إمدادات المياه، حيث تقوم السيارات والشاحنات التابعة للوزارة بتوصيل مياه لهم يومياً. كما أنّ سكان الأراضي التي تطلق عليها روسيا صفة «محررة»، باتوا في نظر روسيا جزءاً كاملًا من المجتمع الروسي.
في خيرسون، أصدرت روسيا أول رخصة قيادة ولوحة ترخيص روسية قبل أسابيع، وحصل السكان في مدن كامينكا دنيبروفسكايا وزابوريجيا (حيث المفاعل النووي الشهير) على جوازات سفر روسية، وأعلن السكان عن قرار الاستمرار في العيش مع روسيا وعدم العودة إلى سيطرة من يسمونهم «قوميي كييف». كلية الطب الأساسية في المدينة، بدأت عامها الدراسي قبل نحو أسبوع، وذلك وفقاً للمناهج الروسية وليس الأوكرانية. مدارسها البعيدة على الأعمال الحربية، استأنفت الدراسة بعد توزيع الكتب الروسية على الطلاب. هناك أيضاً بدأت روسيا بتوزيع الرواتب التقاعدية على نحو 200 ألف متقاعد أوكراني (باتوا روس)، كما أنشات تعريفات خاصة للمواصلات الخاصة بهؤلاء المتقاعدين.
في ماريوبول، بنت روسيا مستشفىً جديداً في مهلة قياسية بلغت 3 أشهر، وأُعجب السكان بسرعة إنجاز المشروع، وعبروا عن فرحهم ودهشتهم لوسائل الإعلام والصحف، معلنين أنهم لم يشاهدوا اهتماماً مماثلاً في المدينة من الدولة المركزية في أوكرانيا طوال الثلاثين عاماً.
في المقابل تحاول السطلات الروسية طمأنتهم بما تقوم به من عمليات ترميم للمنشآت المتضررة، باعثة برسالة ضمنية تفيد بأنّ الخطة التنموية التي ترسمها لهذه المناطق لن تتوقف، وأنّ الوجود الروسي سيبقى على أراضيها «إلى الأبد» (على حدّ تعبيرهم).
عدد كبير من أطفال هذه المناطق، أمضى الرحلات المجانية في الداخل الروسي خلال عطلة الصيف، وذووهم يتحضّرون للحصول على جوازات سفر روسية تمهيداً للمشاركة بالاستفتاء، من أجل إعلان الانضمام رسمياً إلى روسيا، خصوصاً إذا ساعد في ذلك هدوء الأعمال الحربية، حيث يُتوقّع أن يبصر الاستفتاء النور خلال شهر نوفبر/تشرين الثاني المقبل، حسب التقديرات الروسية.
في آخر استطلاعات رأي أجراها «معهد القرم الجمهوري للبحوث السياسية والاجتماعية» مطلع هذا الشهر، أظهرت أنّ نسبة المشاركة في الاستفتاء في منطقة زابوريجيا قد تصل إلى نحو 80٪، بينما 85٪ من بين هؤلاء يعتبرون أن مستقبلهم مع روسيا.
في خيرسون التقديرات تشير إلى مشاركة قرابة 75٪، فيما 88٪ من بين الموافقين على المشاركة يتطلعون إلى فرصة الحصول على جواز سفر روسي، بشكل إيجابي. مركز الأبحاث الفيدرالي الروسي نشر هو الآخر نتائج استطلاعاته الأسبوع الفائت أيضاً، فأشار إلى أنّ الغالبية العظمى من سكان خيرسون وزابوريجيا يؤيدون الانضمام إلى روسيا. هذا ويقول خبراء الإحصاء الروس، إنّ هذا الاتجاه يظهر استقراراً وسيتعزّز أكثر مع مرور الوقت، حيث سيزداد عدد الذين يرغبون في العيش ضمن السيادة الروسية.
أمّا المبررات، فهي تتعلّق حسب الخبراء، بالمقارنة ما بين سياسات موسكو وتلك المتعلقة بكييف، التي تلحق الضرر بالمدنيين وتهدّدهم بالانتقام وترفض اعتبارهم مواطنيها، إذ وصل الأمر بوزارة الداخلية الأوكرانية إلى حدود تهديد كل من يشارك بالاستفتاء في خريسون، بالملاحقة القانونية.
إذا ما عُطف هذا التهديد على الهجمة العسكرية المرتدة التي ينفذها الجيش الأوكراني على محور خاركييف منذ أيام، يمكن الاستنتاج أنّ كييف تتوجّس من نتيجة هذا الاستفتاء، الذي أعلنت موسكو أنها بصدد تأجيله إلى وقت لاحق. هذا يكشف أيضاً أنّ الإلحاح الأوكراني للحصول على السلاح هدفه تعطيل الاستفتاء، الذي يبدو واقعاً لا محال، فيما الأمر يعتمد على التوقيت فقط.
أمّا الحديث عن استعادة كامل الأراضي التي باتت تحت السيطرة الروسية، بشكل حاسم ونهائي، فقد يبدو أمراً صعباً… إن لم نقل إنّه شبه مستحيل لكل ما سبق ذكره.
المصدر : عماد الشدياق نقلاً عن “القدس العربي”.