الدولاريون والليراتيون !
بداهة، يمكن توزيع اللبنانيين بسهولة تامة وفق انتماءاتهم الطائفية، وإن وجدنا بينهم كتلة ضئيلة غير طائفيين حقاً. هم سياسياً وثقافياً واجتماعياً وتربوياً موزعون على هويات طائفية مذهبية، مؤطرة بمؤسسات حزبية وشبكة اجتماعية اقتصادية محكمة الترابط والفعالية.
يمكننا أيضاً تقسيم اللبنانيين إلى تصنيفات كثيرة، مؤثرة وواضحة. فهناك مثلاً “شعب” لبناني متعصب دينياً ومحافظ جداً، وهناك “شعب” آخر غير متدين بالمرة وليبرالي اجتماعياً إلى أقصى الحدود. والقسمة بينهما متوازنة تقريباً في الفضاء العام وإن كان التعايش بينهما لا يخلو من التوتر اليومي.
بعد العام 2000 وصولاً إلى العام 2005، طرأ تحول في توزع الجماعات اللبنانية وهويتها، بعد تشكّلها في قسمتين عريضتين وشاملتين بالغتي الخصومة والافتراق. الأولى، تلتحق بمحور “الممانعة” كهوية أيديولوجية تامة في لغتها ورؤيتها للعالم وللذات. والثانية، تلتحق بمحور مضاد اتخذ اسم “14 آذار” لا يخلو من مقومات أيديولوجية مضادة جذرياً للممانعة ثقافياً وسياسياً. وهذا الانقسام كانت حدته تصل إلى حدود القطيعة الاجتماعية الكاملة. قسمة مغلفة بعداوة صريحة قاربت الحرب الأهلية مرات عدة.. ولا تزال، رغم الانحطاط والتشرذم الذي أصاب الخطاب السياسي للجماعتين.
تأسيساً على ذاك الانحطاط، عاد “الشعب” اللبناني ليتشكل وفق قسمة جديدة، لا تطمس كل التقسيمات السابقة، بل تتراكم عليها كطبقات معقدة من الهويات. ففي خريف 2019، ولدت هوية 17 تشرين، ومعها كان الاصطفاف الجديد، بين شعب الثورة وشعب الثورة المضادة. ومنعاً للتبسيط، فإن هوية التشرينيين أنفسهم كانت بدورها هي خليط غير متجانس وقابل للتذرر وفق هويات مذهبية أو طائفية أو أيديولوجية، كما حال خصومهم.
المستجد اليوم أن اللبنانيين باتوا شعبين وفق قسمة اقتصادية قاسية، تفصل بينهما هوة مخيفة وسحيقة. ثمة شعب دولاري وشعب ليراتي.
أزمة انهيار الليرة، وحبس الودائع بالمصارف، دمّرا الهيكل الطبقي وتراتبيته على نحو صاعق، وأحدثا فوضى تخريبية بعيدة الأثر في المجتمع من الصعب حصر تداعياتها الكارثية على مستقبل الاجتماع اللبناني. صعود غير متوقع ومذهل من ناحية، وسقوط مفاجئ ومأسوي من ناحية أخرى -وبوقت قياسي- طال الملايين.
تروما اقتصادية واجتماعية ستغير وجه لبنان لعقود طويلة. أخذت قسماً من اللبنانيين إلى نعيم “الفريش دولار” كفرقة ناجية، وقسماً آخر إلى “الجحيم” (كما صار متعارفاً عليه وصف البلد).
أصحاب الدخل بالليرة، مسحوقون حرفياً. أصحاب الدخل بالدولار مرفهون فعلياً. وإن كانت “الرفاهية” هنا بالمقاييس اللبنانية هي “صون الكرامة” المعيشية على الأقل.
الطبقة الجديدة المسماة “المفقَّرين” هم أولئك الذين وقعوا في هاوية الدخل بالليرة. وبالأخص منهم الذين لا تصلهم أي حوالة دولارية من الاغتراب. إنهم أقرب شبهاً بطائفة “المنبوذين” في الهند مثلاً. ونسبتهم حسب الإحصاءات الدولية تتجاوز الستين بالمئة من اللبنانيين.
بالمقابل، انبثق شعب دولاري رأيناه يومياً في المولات والمطاعم وأماكن الترفيه والسهر، خصوصاً برفقة مئات الألوف من المغتربين (وهؤلاء دولاريون طبعاً) في هذا الصيف الصاخب والاستثنائي سياحياً، حيث أحيوا على امتداد ثلاثة أشهر حفلاً متواصلاً، فاحشاً في البطر والاستهلاك والتشاوف والبذخ المفرط، في البلد “الرخيص”.
الدولاريون يتعمّدون بأغلبهم “التمتع” كفعل مقاومة ضد رعب الانهيار، ضد الواقع الميؤوس منه، ضد قتامة المستقبل، ضد الخوف من الفقر والجوع. إنهم يحتفلون بنجاتهم، بامتيازهم وحظهم. إنهم السعداء الجدد. وهم يبالغون في بذخهم أحياناً لطمأنة نفوسهم أنهم ليسوا “ليراتيين”.
الليراتيون شعب آخر سُلبت منهم حياتهم التي عرفوها قبل العام 2019. حتى الذين كانوا محدودي الدخل أصلاً، يتعرفون اليوم على فقر غير معهود وضيق لم يختبروه قبلاً.
بين الشعبين فارق يتوسع في مجالات لا تحصى، إن في التعليم أو الصحة أو في العادات الغذائية أو الملبس ومختلف أوجه العيش والتفكير والسلوك. ولربما يتأسس عمران جديد على مثال بعض دول أميركا اللاتينية، حيث يعيش المرفهون في مجمعات خاصة مسورة ومحروسة والفقراء المعدمون في مدن الصفيح العشوائية.. وبينهما حقل الجرائم والخطف والسرقة.
مع الاختفاء التدريجي للدولة، وإفلاسها الذي بات يمنعها عن دور حماية الأمن الاجتماعي وسياسات الرعاية والدعم، يجري اليوم ما قد يكون أخطر ظاهرة سياسية: سباق الطوائف فيما بينها كفيديراليات اقتصادية متنافسة بشدة، بحثاً عن تكثير الدولاريين بشتى الوسائل. وهذا كفيل بتضخم الفساد أكثر وتسريع اختفاء الدولة، وسحق الليراتيين بلا رحمة.
المصدر : يوسف بزي – المدن