هل انطفأ وهج “التحف” اللبنانية في الزمن الصعب؟
في أروقة محال الأنتيكة والتراثيات بطرابلس شمال لبنان تزدحم الذكريات، فلكل قطعة قصة تنتظر من يصطادها لضمها إلى تشكيلته النفيسة.
يعكس ازدهار المحال والمزادات التي تتاجر بهذه المقتنيات اهتماماً متزايداً لدى اللبنانيين، وربما شيئاً من الحنين إلى الماضي.
وفي ظل سيطرة العصر الرقمي باتت تلك القطع تمثل ثمرة الجهد الجسدي والفكري للفنان الصانع الذي يجعل من كل واحدة تحفة فريدة، على خلاف المماثلات المتطابقة التي تقدمها الآلة الميكانيكية.
تتنوع مجموعات الأنتيكة والقطع التراثية بتنوع أمزجة الأفراد واهتماماتهم الثقافية والاجتماعية، فبين باحث عن المظهر النخبوي الباذخ في عمارة المنزل اللبناني القديم، وآخر تشكل له فرصة لإبراز الهوية من خلال الحفاظ على التراث، ونجد أن شريحة أخرى تجد فيها فرصة للربح والكسب من خلال اعتماد تقنيات التسويق والتجارة النشطة.
الحاجة إلى قطعة إضافية
يشعر محبو الأنتيكة بشيء داخلي يصعب تفسيره بالنسبة إلى العامة من الناس، فكل منهم يريد إكمال المجموعة أو البدء بأخرى جديدة.
وتختلف الاهتمامات وتتنوع الميول، فمن شخصية تهوى جمع الطوابع البريدية وصور الأيقونات و”أفيشات الأفلام السينمائية القديمة”، إلى من يسعى إلى تزيين صالون منزله بـ”جاروشة القمح”، وهي أداة مؤلفة من حجرين، تتوسطها فرجة يضع بها الفرد القمح، قبل البدء بعملية الدوران لطحن الحبوب، أو المكواة على الفحم، و”المنقل النحاسي”، من دون أن ننسى خزانة المسابح والخواتم المزدانة بالأحجار الكريمة. ومن بين القطع النادرة الجميلة تبقى للسجاد والكريستال والأواني الفضية مكانة سامية.
يتحدث حسن (65 سنة)، أحد هواة جمع التحف القديمة، عن المجموعة النادرة التي يمتلكها، إذ استغرق عقوداً من الزمن لجمعها. وقال “منذ نحو 50 عاماً وأنا أعمل على المجموعة، وما زلت كلما وجدت سجادة جميلة أو مجموعة كريستال بوهيمي أسعى لضمها إلى المنزل”.
يعبر جامعو القطع التراثية والأنتيكة عن تمسكهم بها، ويعول هؤلاء أن تلقى عناية واهتماماً كبيرين من الأجيال اللاحقة لأنها قطع آحاد جمعت بفعل جهد كبير، عمليات بحث معمقة عنها بين المتاجر، وبذل كثير من المال من أجل اقتنائها والحفاظ عليها سليمة مع مرور الوقت، حيث لا يتأخر كثير منهم عن شرائها وشحنها من خارج البلاد، كله لغاية وحيدة وهي إرضاء شغفه للفن والجمال.
أشكال وألوان
نزور أحد متاجر التحف القديمة والأنتيكة في سوق النحاسين بطرابلس، فنجده مزدحماً بالمئات، بل الآلاف من القطع القديمة، يعود عمر أحدثها إلى 60 عاماً.
داخل المتجر يحار الزائر أين ينظر وعم يسأل، فالتحف متنوعة بين المقتنيات المنزلية وأدوات الزينة والأجهزة الصوتية والمسابح والعصي المرصعة بالأحجار الكريمة، وغيرها كثير.
يرى مصعب طرطوسي أن هذه الحرفة تتوجه إلى واحد في المئة فقط من الناس، هم الذين يعشقون جمع القطع التراثية، مضيفاً “ربما لا تعني هذه القطع 99 في المئة من الناس، يجدونها قديمة يعلوها الغبار وغاب بريق ألوانها، لكنها بالنسبة إلى محبيها صيد ثمين”.
وأوضح “نحن حرفيون وأولاد كار، طوال سنوات كنا نعمل في مجال صناعة الأواني والتحف النحاسية من خلال الدق باليد، وصنعنا خلال عقود أجمل اللوحات الفنية المحفورة بدقة، لكن مع بدء المنافسة الأجنبية وقدوم النحاسيات المصنوعة في الخارج بأسعار تجارية، قررت الانتقال مدفوعاً بشغف ابني بالتراث إلى التجارة بقطع الأنتيكة”.
وعن آلية جمع القطع، أشار طرطوسي إلى أنه في بعض الأحيان يبادر أحد الأشخاص بزيارة المحل من أجل بيع إحدى القطع التي “لم يعد يحتاج إليها، فنقوم بعرضها إلى أن يأتي شاريها الذي يبحث عنها منذ أمد”.
وأضاف “كما بدأت تجري المزادات التي بات “الواتساب” ووسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً في تشجيعها، فيعرض علينا أحد المزادات سيفاً قديماً مزخرفاً، ويبدأ المشاركون في المجموعة بالمزايدة إلى أن يرسو على المزايد الأعلى عرضاً”.
ويلاحظ مصعب طرطوسي تراجع الإقبال على الأنتيكة أخيراً، لأنها تأثرت بالانهيار الاقتصادي، لافتاً إلى أنها تنتمي إلى سوق الكماليات وأسعارها بالدولار، لذلك يبحث الناس حالياً عن تأمين الأساسات لعوائلهم من أجل البقاء على قيد الحياة.
الثريات قلب المنزل
تتنوع الأشياء التي يستهدفها صيادو القطع التراثية، حيث بدا لافتاً إقبال كثيرين أخيراً على الحجارة الرملية والبلاط الرخامي القديم، الذي يحمل شكل رسوم وفسيفساء، وباتت بعض المستودعات والمحال تعرض هذه القطع التي يتم تفكيك بعضها من منازل قديمة.
وقال أحد أصحاب المستودعات إنه “حصل عليها من أصحاب البيوت القديمة التي فكك صاحبها بعض الأجزاء من أجل استبدالها بأخرى جديدة على النمط العمراني الحديث”. وأضاف “لا يعلم بعضهم القيمة الجمالية الحقيقية لهذه الأجزاء التي تستخدم أحياناً في إضفاء لمسة فنية في البيوت العصرية”.
كما يبرز الاهتمام بالثريات النحاسية، وأشار فؤاد حسامي أحد أصحاب متاجر ترميم الثريات القديمة إلى أن “هذه القطعة هي آخر ما يشتريه صاحب البيت، لكن بالتأكيد يبقى لها رونق وجمالية مختلفة”.
ويتطرق إلى أنواع مختلفة من الثريات، كتلك النادرة جداً التي تستخدم الرافعة من أجل إنزالها ورفعها مجدداً، والتي تنشر نورها من خلال الشمع، وهي من الأكثر قدماً، إلى تلك النحاسية والكريستال التشيكوسلوفاكي، التي تبقى عليها بصمة صانعها شاهدة على عراقتها وأصالتها.
ويعتقد أن هذه القطعة تتعرض لمنافسة شديدة في عصر التوفير في الطاقة والإنارة، فهي لها مكانتها بالنسبة إلى لباحث عنها، وأوضح “يأتينا أحياناً بعضهم بثريا قديمة للغاية نقوم بإعادة ترميم هيكلتها، وتحديث التمديدات الكهربائية، وإزالة الشوائب عنها، وعندما يأتي لاستعادتها نلمس الدهشة من النتيجة من خلال نظراته”.
إعادة إحياء التراث
في لبنان، تراجع عدد الحرفيين العاملين في مجال “ترميم القطع التراثية والأثرية”، خالد فضة هو واحد من هؤلاء الذين يعملون في مجال إعادة إحياء التراث العمراني في المنازل والقصور، يتحدث عن عمل مضن من أجل الحفاظ على الأماكن الشاهدة على الحضارات المتعاقبة في البلاد.
يتعهد فضة بعملية الترميم، وتجد في متجره اللوحات الزيتية القديمة، وواجهات المنازل القديمة والنوافذ الخشبية، والقناصل المزخرفة، وغيرها من قطع الأثاث المنزلي.
يؤكد أن عملية الترميم مهمة شاقة وصعبة، وربما هي أدق من عملية التصنيع في كثير من الأحيان، لأن على الحرفي مهمة الحفاظ على شكل القطعة وروحها، وهي التي صنعها حرفي أو فنان آخر وتعود إلى مئات من السنين.
وأشار إلى التكلفة العالية لهذه العملية، حيث يجدها بعض الزبائن مرتفعة، فيما “هناك شريحة من الزبائن تهمهم النتيجة النهائية بغض النظر عن التكلفة المادية، لأنه يريد قطعة جميلة ليتأملها ويشعر بالفخر لأنه يمتلكها”.
يمتدح فضة الحرفي اللبناني الذي يعمل بتقنيات عالية، وأثبت في خارج لبنان مهنيته واحترافيته، لذلك يتم دعوتهم للمشاركة في بناء وترميم القصور على النمط التراثي في كثير من البلدان.
ويعتقد أنه يقع على عاتق هؤلاء الحفاظ على الإرث الحضاري والتراث العمراني للبلاد التي بدأت تعاني الأزمة المالية والاقتصادية التي تتهدد البشر والحجر، حيث تدفع الحاجة بكثير من الناس إلى بيع المقتنيات التراثية الأصيلة بأسعار بخسة في كثير من الأحيان.
المصدر : بشير مصطفى – أندبندنت عربية.