تابعوا قناتنا على التلغرام
مقالات مختارة

العدالة المُغيبة [4/1]… تلاعب سلطوي بمهنية قضاة لبنان

تفاقم التدخلات السياسية في عمل القضاء اللبناني، وتقلل من مساحة استقلاله وبالتالي تراجع الثقة في منظومة العدالة ومهنيتها، عبر أدوات سلطوية مثل الحرمان من التطور الوظيفي أو الإقصاء والتعيين والاستهداف الممنهج.

– تتحسر ندى عوض خالة العنصر في فوج الإطفاء جو بو صعب والذي قضى في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، على تعطل التحقيق وكونه عالقا في المرحلة الأولى (التحقيقات السرية) ما يعد “استفزازاً” لأهالي الضحايا كما تصف شعورها.

“ويجري التلاعب بالعدالة في لبنان ومن أهم ملفاتها الحالية انفجار المرفأ، بسبب تدخلات سياسية في عمل المحققين اتخذت أشكالا متعددة”، وفق ما توضحه المحامية غيدة فرنجية، رئيسة قسم التقاضي في المفكرة القانونية (منظمة بحثية غير ربحية)، وتقول :”بدأ الأمر بالتذرع بحصانات المدعى عليهم، وصولا إلى تقديم عدد كبير من الدعاوى لتنحية المحقق العدلي طارق البيطار بطريقة متعسفة، ثم امتناع وزير المالية يوسف خليل (المحسوب على حركة أمل) عن توقيع مرسوم التعيينات القضائية لغرف محكمة التمييز، ليتحول توقيعه الشكلي إلى أداة منع استئناف التحقيق في جريمة المرفأ”.

أدوات التأثير على القضاة

تكشف وقائع ما جرى مع القاضي البيطار، عن جانب من طرق عرقلة عمل القضاء اللبناني، إذ تقدّم المدعى عليهم من رجال الدولة بـ 21  دعوى مخاصمة (إبطال عمل القاضي) ضده من أجل كف يده وعرقلة التحقيق، وتوزعت الدعاوى كما يلي: 11 دعوى من نائبي حركة أمل، علي حسن خليل وغازي زعيتر، و6 من قبل وزير الأشغال العامة السابق يوسف فنيانوس المنتمي إلى تيار المردة، و3 دعاوى من وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، ودعوى واحدة من رئيس الحكومة السابق حسان دياب، بحسب إحصاء المفكرة القانونية في 4 مارس/آذار 2022.

وإلى جانب الطريقة السابقة، يعاني القضاة من الإقصاء أو التعيين في موقع وظيفي دون مؤهلاتهم، أو حرمانهم من الحق بالتطور الوظيفي، بالإضافة إلى تهديد القاضي كما تؤكد مصادر التحقيق، ورغم أن “التدخل في عمل القضاء يعدّ أمرا شائعا” كما يصفه نادي القضاة في رده على “العربي الجديد”، لكنه لا يتوفر على إحصائية دقيقة بشأن تلك التدخلات والعراقيل التي تتخذ مظاهر مختلفة، بحسب إفادة رئيس نادي القضاة السابق القاضي فيصل مكي.

ويستذكر الدكتور عصام سليمان، الرئيس السابق للمجلس الدستوري (هيئة مستقلة ذات صفة قضائية مهمتها مراقبة دستورية القوانين) حادثة تعرض ثلاثة قضاة من أعضاء المجلس الدستوري عام 2013 للتهديد من مرجعياتهم السياسية (زعماء الطوائف المؤثرين في القرارات)، وهما القاضيان أحمد تقي الدين ومحمد بسام مرتضى والقاضي سهيل عيد الصمد، من أجل دفعهم إلى التغيّب عن جلسات المجلس للحيلولة دون النظر في الطعون المقدمة من رئيس الجمهورية سابقا ميشال سليمان وتكتل التغيير والإصلاح والذي كان الرئيس ميشال عون يرأسه وقتها، ضد قانون تمديد ولاية مجلس النواب، وحال تغيّب الأعضاء دون إصدار المجلس لقرار قبول الطعن وإلزام الحكومة بإجراء الإنتخابات في موعدها، إذ أخلّ تغيبهم لمدة شهر بالنصاب البالغ 8 من أصل 10 أعضاء، مستدركا القول بأن هذه واحدة من الوقائع التي تكشف عن تغييب العدالة عبر المرجعيات السياسية.

ولا يعني ما سبق أن القضاة المستقلين بمنأى عن المضايقات والتدخلات، إذ يتعرضون للحصار في عملهم، بحسب أحدهم والذي تحتفظ “العربي الجديد” باسمه، بسبب منع القضاة من التصريح لوسائل الإعلام، مشيرا إلى أن استقلاليتهم تحول دون تقلد المناصب الرفيعة التي يستحقونها بفعل كفاءتهم، لأن الولاء للمرجعية السياسية هو شرط أساسي من أجل تلك التعيينات، في حين أن المخالفين يتم إقصاؤهم وتعيينهم في وظائف هامشية، ويتعرضون لأوضاع “مهينة” داخل قصور العدل.

ما يذهب إليه القاضي يؤكده بيان صادر عن نادي قضاة لبنان بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني 2022، يوضح الأثر العميق الذي خلفه تراجع الأوضاع على استقرار القضاء وأوضاع القضاة ويعبّر عن امتعاض القضاة لأن “الوضع لم يعد مقبولاً، وأصبح من المتعذر على القضاة أداء عملهم”، بسبب “عدم إقرار قانون فعلي يضمن استقلالية السلطة القضائية”، كما أن “المحاكم وأقلامها لا تتوافر فيها مقومات الحد الأدنى للعمل، لا كهرباء، لا تدفئة، لا قرطاسية”، وهذا الواقع المزري، دفع بعض القضاة لإعادة النظر بمسيرتهم المهنية، إذ تقدّم 3 قضاة بـطلب استيداع (إجازة دون راتب تتجدد تلقائيا) بداية عام 2022، وهم نادين جرمانوس، فيصل مكي، وزياد مكنا.

ويتراوح راتب القاضي بحسب القانون رقم 173 لعام 2011، بين 4 ملايين و100 ألف ليرة للقاضي من الدرجة الأولى، و9 ملايين و350 ألف ليرة في الدرجة 22 (أعلى درجة يصل إليها) بمرور الزمن والأقدمية، وبسبب انهيار الليرة أمام الدولار تراجعت قيمة الراتب مما يوازي 6233 دولارا حسب سعر صرف (1515 ليرة مقابل الدولار) وحتى 300 دولار بحسب سعر الصرف في يوليو/تموز الماضي (30150 ليرة مقابل الدولار)، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بحسب مكي، إذ يعملون في ظروف سيئة، مشيرا إلى ما شهده خلال زيارتين إلى قصر العدل في بيروت، خلال الأسبوعين الثاني والثالث من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021، إذ كانت الطوابق مظلمة بسبب انقطاع الكهرباء، فيما استمر القضاة والموظفون والمحامون بأداء مهامهم ووظائفهم على ضوء الهاتف، لذلك يسعى النادي للضغط والمطالبة لتحسين ظروف القضاء، وترسيخ مناعة أعضائه تجاه السياسة، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة.

عائق الحصانة

تُمنح الحصانة في لبنان على عدة مستويات، منها المخصصة لرئيس الجمهورية، وحصانة رئيس الوزراء والوزراء، وصولا إلى حصانة القادة الأمنيين، والقضاة، والمحامين وتتفاوت درجات ونوعية الحصانة التي تتمتع بها قطاعات محددة، إذ وجدت في الأساس لضمان قيامهم بوظائفهم دون ضغط، لكنها تشكل عائقا أمام الملاحقات القضائية، بحسب النقيب الأسبق للمحامين خلدون نجا، والذي يشدد على ضرورة تبيان حدود الحصانة، قائلا إن “فلسفة الحصانة جاءت لتسهيل قيام الموظف والمسؤول بأعماله ووظيفته، وليست من أجل التهرب من الملاحقات القضائية”.

وما زال القاضي البيطار غير قادر على استدعاء النائبين غازي زعيتر وعلي حسن خليل، لأنهما يتمتعان بحصانة برلمانية، “ولم يتوقفا عن عرقلة مسار التحقيق بالإضافة إلى رفضهما التعاون مع البيطار، ومن قبله أفضت عدة شكاوى إلى تنحية القاضي السابق فادي صوان”، وفق ما ذكرته منظمة العفو الدولية في متابعة للقضية نشرت عبر موقعها الإلكتروني في 9 يونيو/حزيران 2022، بعنوان “لبنان: ينبغي على السلطات رفع الحصانة عن النائبَيْن والسماح باستجوابهما بشأن انفجار مرفأ بيروت”.

ويعتبر الدكتور بول مرقص، رئيس منظمة جوستيسيا الحقوقية (مؤسسة تعنى بالبحوث والاستشارات القانونية)، أن “دور السلطة التنفيذية، ينتهي عند التعيينات وإحالة الملف إلى المرجع القضائي المختص، أي المجلس العدلي”، وعلى سبيل المثال، فإن محاولات تنحية القاضي البيطار تعد خارج الأطر القانونية، وهي ضرب لمبدأ فصل السلطات، وطالما لم يصدر القضاء قرارا بتنحية أو رد القاضي، يبقى المحقق العدلي “سيد ملفه، ويستمر في العمل وكأن شيئاً لم يكن” حسب مرقص.

ولا يعرقل المسؤولون والنواب سير العدالة عبر عدم تعاونهم فحسب، وفقا لنجا الذي يشير إلى ظاهرة حضور النواب ورجال السياسة والأحزاب إلى المحاكم والنيابات، حيث تجدهم ينتقلون من مكتب قاض إلى آخر لمتابعة الملفات وفق ما شهده ورصده، “وهذا أمرٌ يؤثر في ثقة الناس بالقضاء، ويخلق رأيا عاما مشككا بنزاهة القضاة، مع أن كثرا من القضاة لا يخضعون للإملاءات السياسية”.

ويتفق سليمان بأن “تضييق هامش الحصانة توجه له من يسانده”، كما يدعو إلى العودة لجوهر وفلسفة الحصانة التي لم تأتِ مطلقة للتحصن في حال مخالفة القوانين أو ارتكاب الجرائم والتهرب من المحاكمة والقضاء، وإنما جاءت لتكريس فصل السلطات، وأعطيت للنائب على سبيل المثال خلال دورات وفترات انعقاد مجلس النواب من أجل “منع السلطة الإجرائية من التدخل عبر القضاء لعرقلة عمل النائب في معرض ممارسته مهامه التشريعية”، لذلك فإن “حصانة النائب تنتهي عند انتهاء دورات انعقاد مجلس النواب، وخارجها لا حصانة للنائب”، وحصانة النائب منصوص عليها في المادة 40 من الدستور بأنه “لا يجوز في أثناء دورة الانعقاد اتخاذ إجراءات جزائية نحو أي عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه إذا اقترف جرماً جزائياً إلا بإذن المجلس، ما خلا حالة التلبس بالجريمة (الجرم المشهود)”.

مساعٍ للحفاظ على استقلالية القضاء

يشير سليمان إلى أنه تقدم بمقترح قانون لتحصين القضاء وتعزيز استقلاليته إبان رئاسته للمجلس الدستوري عام 2013، ويقضي بانتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى من القضاة مباشرة، وألا يتم تعيينهم من قبل السلطة التنفيذية التي تحتفظ بصلاحية تعيين 8 من أصل 10 أعضاء على أساس المحاصصة الطائفية، وتبعا لذلك، يصبح أعضاء المجلس بمثابة ذراع للنظام السياسي داخل القضاء، وهذا مخالف لروح المادة 95 من الدستور التي نصت على إلغاء الطائفية في توزيع المناصب والوظائف العامة ما عدا وظائف الفئة الأولى أي المدراء العامين وتوزيعها مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، دون تكريس أي مركز لأي طائفة، وبالتالي المداورة في المواقع والوظائف بين الطوائف أي أن يتعاقب على المناصب موظفون من مختلف الطوائف، وعدم تخصيص الوظائف لطائفة أو مذهب.

وفي عام 2018، وضعت المفكرة القانونية مسودة أولية لقانون يضمن استقلال القضاء، وجاءت بعد رصد طوال 10 سنوات وبهدف تعزيز استقلالية مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي، كما ترسخ المسودة “منح ضمانات قانونية للقضاة من خلال النصوص الدستورية والقانونية منذ دخول القاضي إلى السلك وحتى تقاعده”، ومن بينها “عدم نقل القاضي من مركزه إلا بعد الحصول على موافقته”، وأقرّت لجنة الإدارة والعدل في منتصف ديسمبر 2021 صيغة مُعدّلة من مقترح القانون، لكنها وبحسب البيان الذي نشره ائتلاف استقلال القضاء في لبنان على موقع المفكرة القانونية “أدخلت تعديلات خطيرة شوهت النص وكرست الواقع الحالي بحرمان القاضي من ضمانات الاستقرار الوظيفي والحق في الدفاع عن نفسه”، وكان المُرتجى من اقتراح مشروع القانون أن يُحقّق استقلال الهيئات القضائيّة كافة، بهدف الحدّ من التأثيرات السياسية، وهو ما ينطبق بشكل خاصّ على هيئة التفتيش القضائي، لكن شيئاً لم يتغير فقد بقيت هذه الهيئة تحت إشراف وزير العدل وبقي أداؤها خاضعاً للسرية التامة، والأهم بقي جميع أعضائها معيّنين بشكل أحادي من السلطة التنفيذيّة، والملفت أكثر هو أن الاقتراح اعتمد المنحى نفسه بخصوص الهيئة المنشأة لتقييم القضاة، أي في اتجاه منح السلطة التنفيذية صلاحية تعيين جميع أعضائها بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى، بحسب البيان الذي نشره ائتلاف استقلال القضاء.

وتؤكد مهنا أن ائتلاف استقلال القضاء ينتظر الاستجابة لمطالبه من أجل الحفاظ على جوهر القانون،  ويرد النائب جورج عطا الله، عضو لجنة الإدارة والعدل النيابية، بأن اللجنة قامت بعملها بمهنية، بعيداً عن الشعبوية، وقد توصلت إلى مشروع قانون يشكل نقلة نوعية في عمل القضاء العدلي، وتتنظر اللجنة الملاحظات النهائية من وزير العدل على القانون من أجل إقراره بالصيغة النهائية، وإرساله إلى الأمانة العامة لمجلس النواب من أجل وضعه على جدول مجلس النواب.

ويرجح عطا الله أن المرحلة المقبلة ستشهد إقرار قانون يؤمّن الحصانة للجسم القضائي من وجهة نظره، وقابل للتطبيق فترة طويلة من الزمن، لوجود 3 إصلاحات كبيرة في القانون الجديد: الأول هو إقرار انتخاب 7 أعضاء من أصل 10 يؤلفون مجلس القضاء الأعلى، من قبل الهيئة العامة لقضاة لبنان، كما ستشهد تضييق صلاحيات وزير العدل في اقتراح أسماء الأعضاء المعينين لصالح توسيع صلاحية مجلس القضاء الأعلى، بالإضافة إلى تأمين استقرار عمل القاضي، والحد من التدخل السياسي الانتقامي من خلال “منع نقل القضاة من مركز إلى آخر دون إرادتهم قبل فترة من الزمن، في موازاة تصحيح أجور القضاة وسائر موظفي القطاع العام في لبنان، ويتطلع إلى تحصين القضاء في مقابل التدخلات السياسية، إلا أنه في المقابل يعتبر أنه “لا بد من مناعة ذاتية لدى القاضي، لأن هناك عددا كبيرا من القضاة لا يستجيبون للاتصالات والطلبات من قبل السياسيين النافذين”.

المصدر : بشير مصطفى – العربي.

Nour
Author: Nour

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى