عقيدة بريطانيا المحدّثة.. تميل إلى واشنطن…!
بحلول نهاية هذا العام، تجري الحكومة البريطانية مراجعة شاملة لعقيدتها الدفاعية، وتركّز بشكل مباشر على مواجهة ما تعدّه “تهديدات” مصدرها روسيا والصين. هذه الخطوة، أعلن عنها مكتب رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس، التي يبدو أنّها تولي الملفات الخارجية الأولوية القصوى، أكثر من تلك الداخلية التي تهمّ البريطانيين المأزومين في الداخل، نتيجة الحرب في أوكرانيا.
تراس تعهّدت بأنّ حكومتها ستنشر نُسخة محدثة من المراجعة الشاملة للأمن والدفاع والسياسة الخارجية، التي ستركز فيها بحسب ما كشف مكتبها الإعلامي، على مواكبة البنية الدبلوماسية والدفاعية والأمنية للمملكة المتحدة في مواجهة التهديد المتزايد من “الدول المعادية”، لافتة إلى أنّ عقيدة الدفاع والأمن السابقة في لندن، نُشرت في آذار/ مارس 2021، أي قبل بدء الحرب الروسية- الأوكرانية، ربّما هذا ما استدعى التعديل.
عقيدة لندن السابقة التي بُنيت للفترة الممتدة حتى العام 2030، لم تستثنِ روسيا من تصنيفها “عدوا” لا بدّ من مواجهته، حيث اعتبرت أنّها “التهديد المباشر الرئيسي للأمن البريطاني”. وهذا ما أعلن عنه أيضا وزير الأمن البريطاني السابق داميان هيندز، في مقابلة مع صحيفة “ذا تلغراف” خلال شهر كانون الثاني/ يناير الفائت، يوم قال؛ إنّ روسيا إلى جانب الصين وإيران وكوريا الشمالية، هي “من بين أكثر الدول عدائية ومواجهة للمملكة”.
الأولويات البريطانية ترمي دوما إلى الحفاظ على مكانة لندن كلاعب رائد ومتفلّت من الالتزامات الأوروبية، وذراع أمريكية داخل القارة الأوروبية، وهي تسعى دوما لحماية “ظهر” واشنطن داخل القارة، وللحفاظ على مصالحها ونفوذها، بمعزل عن اعتبارات جيرانها
ويبدو أن المملكة المتحدة تسعى من خلال رسم عقيدتها المحدّثة، إلى المزيد من الاستثمار في ما تعتبره “التحالفات الاستراتيجية”. لكن اللافت أنّ هذه الاستثمارات التي تسعى إليها لندن، غالبا ما تكون وجهتها صوب الغرب، تحديدا صوب الولايات المتحدة، وليس ضمن مجالها الحيوي داخل القارة الأوروبية.
وهذا إن دلّ على شيء، فيدل على أنّ الأولويات البريطانية ترمي دوما إلى الحفاظ على مكانة لندن كلاعب رائد ومتفلّت من الالتزامات الأوروبية، وذراع أمريكية داخل القارة الأوروبية، وهي تسعى دوما لحماية “ظهر” واشنطن داخل القارة، وللحفاظ على مصالحها ونفوذها، بمعزل عن اعتبارات جيرانها الأوروبيين.
يحصل ذلك منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، يوم بدأ النفوذ الأمريكي في أوروبا، مع “مشروع مارشال” الذي أعلنه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج مارشال، من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية.
تجد دول أوروبا نفسها مضطرة إلى مساعدة أوكرانيا ومجبرة على مدّها بالسلاح والعتاد، على الرغم من الضرر الذي يصيبها نتيجة الأعمال العسكرية وموجات النزوح، ومن ثم نتيجة العقوبات
في حينه، قدمت الولايات المتحدة هبات عينية ونقدية، وحزمات كبيرة من القروض الطويلة الأمد، فوافقت 17 دولة أوروبية على الاستفادة من ذاك المشروع. أنفقت واشنطن 13 مليار دولار خلال أربع سنوات، واستفادت منها فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية والنمسا وبلجيكيا وسويسرا والنرويج واليونان، وبريطانيا طبعا. لكن بعد عام من بداية المشروع، أنشأت واشنطن حلف شمال الأطلسي عام 1949، الذي ربط القارة الأوروبية بالولايات المتحدة بعد أن ربطها “مشروع مارشال” بها ماليا.
ومذ ذاك، لم تستطع دول القارة الأوروبية الهروب من نفوذ وتأثير واشنطن على قراره. وهذا ما يمكننا رؤيته جليا في الحرب الأوكرانية اليوم، حيث تجد دول أوروبا نفسها مضطرة إلى مساعدة أوكرانيا ومجبرة على مدّها بالسلاح والعتاد، على الرغم من الضرر الذي يصيبها نتيجة الأعمال العسكرية وموجات النزوح، ومن ثم نتيجة العقوبات، وذلك من دون قدرة دول أوروبا على رفض هذا كلّه بأريحية تامة.
دول أوروبا تشعر نفسها مقيّدة المعصمين: الأول تمسك به واشنطن، والثاني بيد لندن، التي تُصنّف من بين أكثر الدول حماسة لإقصاء روسيا من القارة الأوروبية. وقد بدا ذلك جليا في تصريحات الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنيسكي قبل أيام، حين قال إنّ الدعم العسكري البريطاني لبلاده نسبته 100 في المئة، بخلاف ذاك الأمريكي البلغ نحو 70 في المئة، ناهيك عن التبعات الناشئة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل سنوات، وعرقلتها بالتضامن مع واشنطن، فكرة إنشاء “الجيش الأوروبي” المستقلّ، الذي طالب به القادة الأوروبيون (خصوصا ألمانيا وفرنسا)، عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
اليوم، تتّخذ لندن من الصراع الروسي- الاوكراني المسلّح ذريعة من أجل جعل روسيا “عدو العالم”، وليس عدوا لأوكرانيا فحسب. وهذا السلوك يساعد واشنطن في تصوير القارة الأوروبية على أنّها أكثر انجذاباً صوب الغرب وليس نحو الشرق
اليوم، تتّخذ لندن من الصراع الروسي- الأوكراني المسلّح ذريعة من أجل جعل روسيا “عدو العالم”، وليس عدوا لأوكرانيا فحسب. وهذا السلوك يساعد واشنطن في تصوير القارة الأوروبية على أنّها أكثر انجذابا صوب الغرب وليس نحو الشرق، حيث روسيا والصين. وكذلك، يمكّن واشنطن من تعزيز محاولات الاستيلاء على سوق النفط والغاز في الدول الغربية، وحتى في مكان ما، في الدول العربية العربية. وهذا ما تؤكده بيانات عمليات بيع الغاز الطبيعي المقبل من القارة الأمريكية صوب أوروبا، التي بدأت تشكو من أسعار الغاز الأمريكي الفاحش. ويضاف إليه أيضا، الحنق الذي أظهرته الإدارة الأمريكية بعد قرار خفض إنتاج النفط العالمي على يد منظمة “أوبك بلس” مؤخرا، متهمة السعودية بالوقوف إلى جانب روسيا.
لا تقف لندن عند هذا الحدّ، بل تتدخّل في شؤون دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فترسم صورة تظهر روسيا من خلالها بمظهر “المعتدي” على كل العالم، وذلك من خلال التأثير على عملية رسم السياسات الداخلية لدول المنطقة، ودول “ما بعد الاتحاد السوفييتي”. وهذا ما أكدته ملفات سبق أن نشرتها مجموعة من قراصنة “أنونيموس” على حلقات قبل نحو عام على شبكة الإنترنت، وأظهرت ضلوع الاستخبارات البريطانية في نزاعات داخل دول البلقان، وفي سوريا، وكذلك في لبنان. وكل تلك الملفات، ويا للصُّدف، لا تصبّ إلا في صالح واشنطن!
عماد الشدياق نقلا عن “عربي21”