ماذا وراء إضراب المصارف اللبنانية؟
يشكل إضراب جمعية المصارف في لبنان محطة إضافية في “الكباش” القائم حول توزيع الخسائر في ظل الانهيار الاقتصادي، إذ تشهد البلاد تقاذفاً للمسؤولية بين الأطراف التي كانت تُمسك بزمام القرار الاقتصادي بدرجات مختلفة. وجاء توقيف رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي في مطار بيروت ليفجر أزمة إضافية، ويثير المخاوف من احتمالية بلوغ محطة تغلق فيها البنوك أبوابها لفترة طويلة من الزمن.
وتحدثت جمعية المصارف، في بيان، عن “دعاوى كيدية تتعرض لها المصارف، والتي تصدر فيها بعض الأحكام الاعتباطية والشعبوية عن مرجعيات يتم اختيارها مسبقاً من المدّعين لغايات لم تعد خافية على أحد”. وأبدت الاستغراب من “تجاهل بعض المكلفين احترام القانون ومضمون أحكامه، وكأن تطبيق القانون أصبح اختيارياً لهم، وليس إلزامياً”.
وتطرق البيان إلى “تدابير تتناول حريات الأشخاص وكراماتهم وتسيء إلى سُمعتهم وتعرّض علاقات المصارف المحلية بالمصارف المراسلة، مما يُحدث بالغ الضرر ليس للقيّمين على المصارف فحسب، بل بصورة أولى للمودعين”. وأشار إلى أن “الوضع الاقتصادي ضحية مخاطر نظامية، وليس ناتجاً من تصرفات فردية اتخدتها المصارف أو غيرها من المؤسسات الاقتصادية كي يجري تحميل المسؤولية لأفراد”.
وعلقت الجمعية على توقيف رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي، بسبب ورود شكوى جزائية في حقه أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان من قبل صاحبة أسهم تفضيلية تعيب عليه أنه لم يوزع لها أرباحاً في وقت لم يحقق المصرف فيه أرباحاً ليوزعها. وقال البيان، إن “هذه الأوضاع الشاذة التي حاولت المصارف قدر الإمكان التعامل معها بمرونة، ولو على حسابها، بلغت حداً لم يعد مقبولاً، وهي لم تعد تتحمل المواقف المضرة والشعبوية على حسابها وعلى حساب الاقتصاد”. لتصل الجمعية إلى إعلان الإضراب العام بدءاً من الإثنين الثامن من أغسطس (آب) الحالي، معتبرةً ذلك بمثابة “إنذار عام يكون دعوة للجميع للتعامل بجدية ومسؤولية مع الأوضاع الراهنة”.
مشروعية الإضراب
ويُعد إضراب جمعية المصارف من المرات القليلة التي يعلن فيها أرباب العمل في لبنان التوقف عن العمل، فقد اعتاد اللبنانيون على إضرابات يعلنها الأجراء والقوى العاملة من أجل المطالبة بتحسين أوضاعهم، ولكن هذه المرة أعلنت جمعية المصارف الإضراب لتهز العصا في خضم الصراع الناشئ في أعقاب الانهيار.
ويشير المحامي كريم ضاهر إلى أن “الإضراب وجه من وجوه الاعتراض والتعبير عن الرأي، وهو حق أساسي بحمى الدستور وشِرعة حقوق الإنسان التي التزمها لبنان”، مستدركاً، “إلا أن الإضراب أو أي عمل يؤثر سلباً على المصلحة العامة وحقوق الناس يصبح تعسفاً في استعمال الحق، واستغلال مركز المهيمن بسبب الاحتكار وارتباط الخدمات بيوميات المواطن ومصالحه، وقد يتسبب في تداعيات خطيرة، لا سيما إذا ما نتج عن مصلحة خاصة، أو كان دفاعاً عن مصالح أفراد وبمواجهة القضاء”.
ويستند ضاهر إلى مبدأ عام في القانون الإداري هو “استمرارية المرافق العامة”. وهذا المبدأ يلزم بحد أدنى لاستمرارية الخدمات الضرورية. ويذكر ضاهر بما كان قائماً خلال الحرب من “استمرار عمل القطاع المصرفي أياً كانت الظروف، بسبب مناقبية عالية كان يتحلى بها المسؤولون المصرفيون آنذاك”.
من يتهرب من المسؤولية؟
في المقابل، رفضت أوساط المؤسسة القضائية التعليق على بيان جمعية المصارف الذي يتحدث عن دعاوى كيدية أمام مراجع يتم اختيارها مسبقاً، مكتفيةً بالقول إنه “لا يوجد موقف رسمي في شأن هذا الموضوع”.
من جهتهم، قرأ المودعون بسلبية إعلان جمعية المصارف الإضراب الذي تزامن مع موعد الأجور المتأخرة لموظفي القطاع العام، الأمر الذي سيؤدي إلى تأخير إضافي في عمليات القبض.
وعبّر حسن مغنية، من جمعية المودعين في لبنان، عن اعتقاده أن “حل الأزمة التي يعيشها لبنان هو في السياسة العامة، وليس في قرارات قضائية فردية”، لافتاً إلى أن “الاستجابة القضائية المحلية بطيئة بسبب المصالح المتبادلة بين بعض القضاة وبعض المصارف”، وأن “الدعاوى التي قبلت من المودعين كانت في الخارج، ودعوى فاتشيه مانوكيان الشهيرة نفذت في لندن”.
واتهم مغنية المصارف اللبنانية بـ”أخذ المودعين والمواطنين رهينة بسبب الإضراب الذي سيمنع الموظفين من تقاضي أجورهم”، مضيفاً أن “المصارف تحاول تأليب الرأي العام اللبناني ضد القضاء في كل مرة يتم المس بمصالحها، وقد نجحت في الضغط من أجل إطلاق سراح المدير التنفيذي لأحد المصارف”.
وعلّق مغنية بسلبية على الخطة الحكومية للتعافي المالي، التي تتضمن شطب نحو 70 مليار دولار من الديون التي في ذمة البنك المركزي، وذلك لمصلحة المصارف التجارية الخاصة، لأن ذلك يشكل خضوعاً لصندوق النقد الدولي”، مطالباً بـ”تدقيق مالي شفاف، وصولاً إلى المحاسبة وشطب 60 مليار من الأموال التي اكتسبت بصورة غير مشروعة من النافذين سياسياً PEPS”، ورافضاً “الخطط التي تقوم على الشطب واعتماد مبدأ عفا الله عمّا مضى”.
وأكد مغنية أن “المودعين لا يطالبون بإفلاس المصارف”، موضحاً أن “إفلاس المؤسسات المالية لا يتم في يوم وليلة، وقد يستغرق سنوات من أجل التصفية، وبنك المدينة مثال حي في هذا السياق”. ولفت إلى أن الإفلاس سيعني ضياعاً لحقوق المودعين، لأن النصاب القانوني الذي يمكن لكل مودع استعادته هو 75 مليون ليرة، أي ما يوازي ألفي دولار حالياً”، داعياً إلى “تخيّل كيف سيكون وضع مودع يمتلك 10 ملايين دولار في حسابه البنكي”. ويجزم بأن “أي بلد يقوم على ركيزتين هما الأمن والاقتصاد، وفي حال انكسار أي منهما سينهار البلد. من هنا، فإن إفلاس القطاع سيؤدي إلى تكبيل الإقتصاد، وانتقال المواطنين إلى الاقتصاد النقدي وسيادة السوق السوداء التي تصعب مراقبتها”.
وأشار مغنية إلى أن “قانون (الكابيتال كونترول) الفعال هو ما كان يمكن أن يُعتمد عند بدء الأزمة، أما حالياً فلن يكون نافعاً، وسيقيّد الحركة الاقتصادية، إذ سيتطلب استيراد أي سلعة إذناً مسبقاً”.
المهن الحرة تحذر
من ناحية أخرى، نبّه اتحاد نقابات المهن الحرة جمعية المصارف من “مغبّة المضي في الإضراب المفتوح التزاماً بمسؤولياتها وصوناً للقانون ومصالح الناس والحريات العامة”، مؤكداً أن “جمعية المصارف عندما تتهم القضاء بإصدار أحكام اعتباطية وشعبوية تكون قد ضربت بعرض الحائط حرية المودع في المطالبة بحقوقه بواسطة القضاء من الناحية القانونية والعلمية”. ورأى الاتحاد أن موقف الجمعية “حماية وتغطية مصرفيين أبوا أن يتحملوا مسؤولية الانهيار أقله بما يُنسب لهم من أخطاء”. وسأل الاتحاد، “هل نسيت أو تناست جمعية المصارف أو وكلاؤها القانونيون مبدأ الفصل بين السلطات المكرس دستورياً؟ وهل تسعى إلى إيصال الأوضاع إلى حد تيئيس المودعين من إمكانية ولوج الحلول النظامية وقانونية وحضهم على تحصيل حقوقهم مباشرة بالقوة؟”.
وخلص الاتحاد إلى أن “المصارف مؤتمنة على أموال المودعين، وبما أن إعلانها الإضراب وحرمان المودعين والموظفين من الحصول على المال القليل المتبقي لكي يعتاشوا، يشكلان إساءة للأمانة”، وأن “الهدف الأساسي الذي تسعى إليه المصارف من خلال هذا الإضراب هو الضغط على السلطتين التنفيذية والتشريعية لتغيير مسار خطة التعافي المطروحة والأهم قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي الجاري إعداده”.
الآثار بعيدة الأجل للإضراب
في السياق ذاته، اعتبرت الباحثة في مجال الاقتصاد المدولر ليال منصور أن “إضراب المصارف سيؤدي إلى منع المواطنين من الحصول على معاشاتهم والوصول إلى ودائعهم بالليرة اللبنانية من أجل تحويلها إلى الدولار، وهو أمر سيؤدي في الأيام الأولى إلى استقرار وهمي في سعر صرف الدولار في سوق التداول الحر”، مضيفةً، “سيؤدي إلى مؤشرات اقتصادية في الأشهر المقبلة مع التأكد من عدم تحقيق الإصلاحات”.
وتوقعت منصور ارتفاعاً في سعر صرف الدولار، لأن استقراره حالياً ناتج من تدخل البنك المركزي ودخول دولارات من خلال المغتربين الزائرين للبنان، مكررةً أن إضراب المصارف لن يكون له تأثير كبير لأن الاقتصاد يتحرك حالياً في ظل الحد الأدنى من الثقة بالمصارف التي توقفت عن القيام بوظائفها التقليدية، ولكنه في المقابل سيؤثر على المؤشرات الاقتصادية التي ستبقى سلبية لأنه “سيظهر تخبطاً في لبنان بسبب غياب الإصلاحات والخطط في ظل استمرار الأزمة”.
المصدر : بشير مصطفى – أندبندنت عربية.