انتخاب رئيس لبناني وترسيم الحدود: إلى ما بعد الشتاء!
ثمة مثل شعبي لبناني يقول: “أينما حَبِلت.. تُخلّف عندنا”.. هذا المثل ينطبق اليوم على الظروف المحيطة بملفي ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وربّما استطراداً على استحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد نحو ثلاثة أشهر، التي لا يُستبعد أن تتأخر فندخل في فراغ ربّما يطول. سبب ذلك يعود إلى الحرب الروسية- الأوكرانية وتبعاتها، وإلى الصراع المحموم على مصادر الطاقة وخصوصاً الغاز الطبيعي الذي تتعطّش له القارة الأوروبية، ما ينذر باحتمال إعادة رسم خارطة المنطقة برمّتها.
فلنعد بالذاكرة إلى أيام قليلة خلت، يوم انتشر خبر في الإعلام يتحدّث عن تفعيل روسيا لمنظومة الدفاع الجوي “إس 300” في السماء سوريا عقب غارة إسرائيلية، في حينه أكد وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس في بيان، أنّها كانت سابقة في العلاقات بين الجيشين الروسي والاسرائيلي. وتزامناً، كانت وزارة العدل الروسية تتقدّم بدعوى ضد “الوكالة اليهودية”، التي تدعم اليهود المهاجرين إلى إسرائيل، وتتهمها موسكو بانتهاك القوانين الروسية.
بدا هذان التطوران الطارئان على العلاقات الروسية- الإسرائيلية، من خارج السياق. فإسرائيل لم تُوقف غاراتها ضد الأهداف الإيرانية في سوريا منذ سنوات، والوكالة اليهودية المذكورة كانت تقوم بعملها على الأراضي الروسية منذ العام 1989! وهذا كان مؤشراً جدياً على وجود مشكلة أشدّ وأعظم تزعج موسكو وتؤثر على صفو علاقاتها مع تل أبيب.
هذه المشكلة ربّما تكون مجريات الحرب في أوكرانيا. المراقب لطبيعة العلاقة بين الجانبين، يكتشف أنّ الموقف الإسرائيلي من الحرب لم يرضِ يوماً القيادة الروسية منذ بدايتها في 24 شباط/ فبراير، وقد سبق أن أعرب عن ذلك أكثر من مسؤول روسي، وكان آخرهم نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي عبّر قبل أسبوع عن خيبة أمل موسكو إزاء تصريحات الإسرائيليين “المعادية لروسيا” على خلفية الحرب، واعتبر أنّها “لا تتماشى مع الصداقة” بين البلدين.
كما أضيف إلى هذا الاستياء، بحسب ما تظهر التطورات الميدانية، ملف الغاز الذي تحاول إسرائيل استعجاله، وتصرّ على شهر أيلول/ سبتمبر، أي قبل فصل الشتاء، ليكون موعدَ بدء نقل الغاز إلى القارة الأوروبية. فصل الشتاء هو ما تعولّ عليه موسكو أشدّ تعويل من أجل إخضاع القارة العجوز، وانتزاع اعتراف أوروبيّ يثبّت مكانتها في القارة، فتتخطى العقوبات وتعيد ضمان أهميتها كشريك لأوروبا “لا غنى عنه” في مجال الطاقة.
تسعى روسيا إلى ذلك من خلال وقف ضخّ الغاز إلى حدوده الدنيا، وقد خفّضته بالفعل قبل أيام قليلة إلى نحو 20 في المئة عبر خط “نورد ستريم 1، عارضة على ألمانيا ومجمل الدول الأوروبية بشكل موارب، التزوّد بمزيد من هذا الغاز عبر خط “نورد ستريم 2” المجمّد نتيجة العقوبات.
هذا بطبيعة الحال، يحيلنا إلى ملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، والذي يشهد منذ مدة ضغوطاً كبيرة تُمارس على السلطات اللبنانية من دول أوروبية والولايات المتحدة، من أجل تمريره سريعاً. يتقدم تارة ويتعثّر طوراً، وذلك منذ الجلسة الأولى للمفاوضات غير المباشرة التي عُقدت جنوب لبنان في منطقة الناقورة، ومروراً بلعبة ترسيم الخطوط وإمكانية تسوية الخلاف مع إسرائيل، وصولاً إلى زيارة المبعوث الأمريكي في مجال الطاقة آموس هوكشتان الذي وصل هذا الأحد إلى بيروت (قادماً من أوروبا بعد جولة في باريس وبروكسل وأثينا لمناقشة أمن الطاقة الأوروبي) بعد تسريبات لبنانية تفيد بأنّ الأخير يحمل جواباً إسرائيلياً على الاقتراح اللبناني، وبوادره إيجابية!
في خضم هذا التأرجح، كان حزب الله يردّد على الدوام أنّه خلف الدولة اللبنانية، وأنه داعم لأيّ قرار تتخذه الحكومة. إلاّ أنّ هذا الخطاب تبدّل في آخر مقابلة أجراها، قبل أيام، الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، مع قناة “الميادين” المقرّبة من إيران. يومها قال نصر الله حرفياً أنّ “الدولة اللبنانية عاجزة عن اتخاذ القرار المناسب الذي يحمي لبنان وثرواته، ولذلك فإنّ المقاومة مضطرة إلى اتخاذ القرار”. لم يكتفِ نصر الله بهذا الكلام، وإنّما قام بربط استخراج الغاز من كاريش بحصول لبنان على حقوقه، معتبراً أنّ بدء استخراج النفط قبل ذلك يعني أنّنا “ذاهبون إلى مشكل”.
بعبارات أخرى أشد وضوحاً، فإنّ نصر الله حاول ربط عملية “ضخّ” الغاز إلى القارة الأوروبية، بتعقيدات ملف المفاوضات اللبنانية، التي يبدو أنّها ستستهلك المزيد من الوقت بين أخذ ورد. وبرغم ذلك كان نصر الله شديد الحرص في إيصال الرسائل التي تؤكد أكثر من مرة بأنّه لا يريد الحرب، لكنّها تعترف في الوقت نفسها بأنه سيخوضها إذا فُرضت عليه، وسيكون قادراً على “ضرب أي هدف في بحر فلسطين المحتلة”.
هذا التبدّل في النبرة، وما يستتبعه من قفز في التعابير من “خلف الدولة” إلى “أمام الدولة”، لم يطرأ إلاّ بعد قمة طهران، التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع القيادات الإيرانية، وقيل إنّ الإيرانيين حصلوا على تفويض لإدارة الملف، وهذا ربّما يفسر التبدّل في موقف “حزب الله”، الذي يكاد أن يقول بأنّ الحرب ربما تكون مفروضة عليه.
المطلع على سلوكيات الحزب وأدبياته السياسية والعسكرية، يستدرك أنّ المصلحة اللبنانية قد تكون هي في آخر سلّم اهتماماتها؛ لولا أنّ الأمر يتعلق بمستقبل الطائفة الشيعية التي تُعتبر بيئته الحاضنة، وجلّ ما يهتم إليه أمران: الأول تثبيت نفسه لاعباً إقليمياً، والثاني حماية السلاح.
وبناءً على هذان الاعتباران، بدا كلام نصر الله، وكأنّه يبعث بالرسائل المبطنة إلى الجانب الإسرائيلي. بدا كمن يقول له: “فلتؤجلوا استخراج الغاز إلى ما بعد شهر أيلول/ سبتمبر، لأن ذلك سيكون أسلم لكم ولنا (كمحور يضم إيران وروسيا والصين ومن لفّ لفهم)”. كأن نصر الله يقول: “أجّلوا الاستخراج، وإلاّ فنحن ذاهبون مكرهين إلى ما لا تُحمد عقباه”.
هذا الكلام أظهره بشكل دبلوماسي أوضح رئيس مجلس النواب والحليف حزب الله الأول، نبيه بري، الذي قال لـ”رويترز” قبل أيام أيضاً: “العودة إلى الناقورة أفضل من الذهاب إلى مكان آخر”، من دون أن يحدد إذا كان المقصود بذلك التصعيد بعد إطلاق الحزب مسيّرات باتجاه حقول النفط التي تعمل عليها إسرائيل.
هذا كلّه يدفعنا صوب الاستنتاج بأنّ التهديد قد لا يكون تهديدا “صادرا من حزب الله”، وإنّما على الأرجح هو تهديد صادر “بواسطة حزب الله”؛ ومصدره محور روسيا- الصين- إيران، الذي يتشكّل منذ مدة في مواجهة “الغرب”، وبدأ يظهر مع بداية الحرب الأوكرانية.
أمّا الإجابة الإسرائيلية على هذا التهديد، فحتى اللحظة غير واضحة، لكنّ الأحداث قد تحمل بعضاً من المؤشرات: إذا فهمت إسرائيل الرسالة جيداً، ربّما قد يؤجل ضخّ الغاز إلى القارة الاوروبية إلى ما بعد فصل الشتاء، وتكون المنطقة بذلك قد التقطت أنفاسها، وبالتالي تكون الأزمة قد قُذفت إلى فصل الربيع (نهاية ذروة الحاجة إلى الغاز للشتاء في آذار/ مارس) وذلك لحين معرفة ما سترسو إليه الأمور بين روسيا والغرب في أوكرانيا.
أما إذا أصرّت إسرائيل على موقفها باستخراج الغاز وضخّه إلى أوروبا سريعاً، فربما يكون ذلك بداية لتبادل الرسائل النارية في بحر الأبيض المتوسط، عندها سيطير ملف الترسيم وستتوقف الوساطات، وسيتأجّل بحكم الأمر الواقع ملف الانتخابات الرئاسية في لبنان إلى أجل غير مسمى.
المصدر : عربي 21 – عماد الشدياق.