لبنان يقر “تعديل السرية المصرفية” استجابة لصندوق النقد !
سبعةُ عقود تقريباً عاشها نظام السرية المصرفية في لبنان الذي ولد عام 1956. آنذاك شكل عامل جذب واستقطاب للرساميل العربية الباحثة عن ملجأ آمن لودائعها واستثماراتها. ومذ ذاك الحين، عاشت البلاد حقبات مختلفة، تراوحت بين ازدهارٍ وركود وانهيار.
أما اليوم فقد جاء القانون الجديد استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، تمهيداً لإقرار الكابيتال كونترول، وصولاً إلى ولادة حقبة اقتصادية جديدة غير واضحة المعالم. كما حظي بقوة دفع كبيرة من المجموعات الحقوقية التي تعتبر أن سوء استخدام نظام السرية المصرفية، تحوّل إلى أداة لغسيل الأموال غير المشروعة، والفساد بأوجهه المختلفة، بما فيها عمليات الإثراء غير المشروع؟
مجلس النواب يقر تعديل السرية المصرفية
يوم الثلاثاء 26 يوليو (تموز)، أقر مجلس النواب اللبناني مشروع القانون المعجّل الرامي إلى تعديل بعض مواد قانون السرية المصرفية، كالمادة 105 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والمادة 150 من قانون النقد والتسليف، وبعض مواد قانون الإجراءات الضريبية، وتعديل وإكمال التشريع المُتعلق بالمصارف، وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع.
تُوضح فقرة الأسباب الموجبة المرفقة مع مشروع القانون الغايات والأهداف من هذا التعديل، “تحفيز النمو وتوفير فرص العمل ووضع لبنان على سكة التعافي والنهوض”، وعلى وجه الخصوص شكل نتيجة لـ “توصل الوفد اللبناني المُكلّف من قبل مجلس الوزراء التفاوض مع بعثة صندوق النقد الدولي، إلى اتفاق مبدئي على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي تحت اسم (التسهيل الائتماني الممدّد)”، و”تمهيداً للحصول على موافقة مجلس إدارة الصندوق على الاتفاق بشكل نهائي”. هذا الأمر يتوافق مع موقف رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، الذي دعا قبل الجلسة النيابية إلى إقرار قانون رفع السرية المصرفية، مشيراً إلى تحقيق اللجنة التي يرأسها “أكبر نسبة من الشفافية من خلال توسيع المرجعيات، وهو يعدّل 4 قوانين، منها الإثراء غير المشروع، وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والإجراءات الضريبية، ومكافحة تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب”.
صندوق النقد فرض شروطه
رسّخ المشرع اللبناني نظام السرية المصرفية انطلاقاً من وصفه إفشاء السر المصرفي بالجريمة الجزائية. استمر هذا الأمر طوال 66 عاماً، وصولاً إلى يومنا هذا، إذ أقر مجلس النواب مشروع قانون تعديل نظام السرية المصرفية، الذي سمح لبعض الهيئات الحكومية برفع السرية المصرفية على وجه التحديد في قضايا التحقيقات الجنائية، بما في ذلك غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويرى سمير حمود (رئيس لجنة الرقابة على المصارف سابقاً) أن إقرار تعديل السرية المصرفية في لبنان يأتي “استجابة لمطلب صندوق النقد الدولي بالدرجة الأولى”، وهو “مطلب سابق على الأزمة وليس نتيجة لها”. وينطلق من تجربته التي ناهزت 3 عقود من العمل في رقابة القطاع المصرفي، ليشير إلى أن “الصراع الطويل مع صندوق النقد الدولي سابقٌ للأزمة وانهيار الهيكل”، متحدثاً عن بعض ملامح النقاشات حول جدوى السرية المصرفية، “كانوا يعتبرونها عائقاً أساسياً أمام تتبع تبييض الأموال والفساد، وحؤول هذا النظام دون قدرة الجهات الرقابية على القيام بعملها كما يجب لمكافحة التهرب الضريبي”. ويضيف “صندوق النقد الدولي يرى أن البلد يعاني كماً هائلاً من الفساد في ظل استمرار التمسك بالسرية المصرفية، فيما يتجه العالم بأسره لفرض السرية المهنية حصراً”، لافتاً إلى أنه “كان دفاعنا تجاه تلك الادعاءات بأن السرية المصرفية ليست أداة لحماية أي أموال غير مشروعة، ذلك أن القانون 44/2015 أباح رفع السرية المصرفية عن الأموال المشتبه فيها، وبالتالي يحق لهيئة التحقيق الخاصة رفع السرية المصرفية، ومن ثم إحالة الملف إلى المدعي العام التمييزي، وفي حال التثبت من وجود أي إجحاف تُعاد السرية المصرفية من جديد إلى تلك الحسابات، وتعود حرية الحركة للأموال.
شروط صندوق النقد انتصرت شكلياً
ويقود ما سبق إلى التساؤل “إذا ما كانت معايير وشروط الصندوق هي التي خرجت منتصرة بفعل التعديلات الحالية”. يجيب سمير حمود “نحن كسلطة مصرفية كنا نرى أن نظام السرية الذي أُقر عام 1956، كان مدخلاً لتنمية العمل المصرفي وجعل لبنان السوق المصرفية العربية”. ويتابع موضحاً أنه قبل الأزمة توصل إلى قناعة أن “رفع السرية المصرفية مؤذ، وبقاءها غير مفيد”، و”الغاية الكبرى من السرية المصرفية كانت حماية الأموال النظيفة وليس غير النظيفة”، مضيفاً “مع انهيار الهيكل والمصرف: ما نفع السرية؟ وقبل إعادة بناء المصارف، لا نفع من القوانين”. كما أن “هذه السرية فقدت غايتها منذ فترة من الزمن عندما كانت تضغط المصارف على أصحاب الحسابات للتوقيع على قوانين الفاتكا وغيرها من التشريعات، التي تخرق خصوصية الحسابات”.
ويشبه سمير حمود التعديلات التي يدخلها مجلس النواب اللبناني إلى التشريعات المصرفية في البلاد، بـ “خياطة بدلة جديدة وأنيقة لجسد ميت”، ومن أجل الاستجابة لمطالب صندوق النقد. ويلاحظ أن هناك محاولات حصر الجهات التي لها الحق في رفع السرية المصرفية بالجهات الرقابية العليا، والمؤسسة القضائية في حال وجود جرم جزائي.
ما الفائدة من الكابيتال كونترول؟
يتطرق حمود إلى الشرط الثاني لصندوق النقد الدولي، ألا وهو إقرار “قانون الكابيتال كونترول”، مشككاً بفاعلية تشريع كهذا في المرحلة القانونية، لأنه “ما الفائدة من تقييد حركة التحويلات في غياب وجود الرساميل؟”، فالودائع لم تعد موجودة على وجه الحقيقة التي يمكن التعامل بها. ويشير إلى أن “لبنان يعتمد على التحويلات الواردة أكثر من الصادرة، وقد يؤدي إقرار “الكابيتال كونترول” إلى وقف جريان الأموال إلى البلاد”، معطياً مثالاً على شراء أحد المغتربين لعقار عندئذ سيطلب البائع السداد في الخارج.
إعادة إحياء النظام المصرفي
ويطالب حمود بضرورة تقديم حلول جذرية من أجل إعادة إحياء القطاع المصرفي والحفاظ على حقوق المودعين، لأن “هذا القطاع ليس مجرد ترف في لبنان، وهو جزء أساسي من تركيبة النظام الاقتصادي اللبناني وميزان المدفوعات”، مؤكداً أنه “لا يمكن تحقيق توازن النمو الاقتصادي أو ميزان المدفوعات من دون القطاع المصرفي، لأنه يشكل ربع الناتج القومي اللبناني تقريباً، وذلك لأن أكثرية القوى البشرية الشابة تعمل خارج لبنان”، و”كان حجر الأساس في الحركة الاقتصادية حتى في فترة ازدهار التجارة، والصناعة والزراعة”.
ويرى حمود أن لبنان عاش خلال العقود الثلاثة الماضية في ظل “نظام نقدي خاطئ مبني على أسوأ نظام سياسي”، ويتخوّف من “فترة مقبلة غير مريحة على المدى البعيد على الرغم من تغيير كل الطاقم الحالي الذي يدير السياسة النقدية”، مكرراً أن “المخرج يكون بخطة ثلاثية القواعد: إحياء نظام مصرفي وفق معايير دولية صحيحة، وتكريس حقوق المودعين والاعتراف بها، ومن ثم العمل لإعادتها، وصولاً إلى تأسيس شبكة دفع داخلية بالعملة المحلية”.
ويخلص حمود إلى وجوب عودة لبنان إلى أصول العمل المصرفي، والاستفادة من ركيزتين ثابتتين هما العنصر البشري في إدارة المصارف، والمغترب اللبناني الذي يتوق إلى استعادة ثقته بقطاع مصرفي يحظى يتصنيف دولي جيد. ويطالب سمير حمود بـ “الالتزام بهوية لبنان التاريخية”، معبراً عن معارضته لـ “مصادرة الملكية الخاصة” والإجراءات التي تحول دون حرية التحويل والتحاويل، مع الالتزام بالتدقيق بالعمليات المصرفية المشبوهة والثروات غير المشروعة.ا
المصدر : بشير مصطفى – أندبندنت عربية.