متطوعات “الدفاع المدني” في قلب النار والخطر !
شابات من مختلف المناطق والأطياف تطوعن في الدفاع المدني ليكنّ في مواجهة الكوارث والمآسي الصغيرة والكبيرة. أمهات، جامعيات، صبايا في أول مسيرتهن المهنية لكل منهن قصتها مع الدفاع المدني ترويها بشغف وحماس، وصور مؤلمة عالقة في الذهن يصعب أن تمّحى وصور مشرفة يحق لهن التباهي بها.
أدرينالين المهمات الخطرة
ناديا عبد الساتر متطوعة في مركز جونيه الإقليمي دفعت بشغفها واندفاعها الى أقصى حد لتتحول مدربة ومتخصصة في الإطفاء في الأماكن الضيقة بعد أن تلقت تدريبات كثيرة وقامت بمهمات أكثر. بسبب حادثة شخصية خسرت فيها قريباً لها وشهدت على جهود الدفاع المدني لإنقاذه تولّدت عندها شرارة التطوع. أرادت أن تكون جزءاً من هذا الفريق الذي يسارع لمساعدة من يحتاج إليه.
«لم أتوقع أن أتقدم، تقول، بدأت بخطوات صغيرة في المركز أتعرف على المعدات وأسمائها وحين بدأت أخرج بمهمات على الأرض كنت أتطلع الى رفاقي الأكثر خبرة لأساعدهم في الأمور الصغيرة.
أول خطوة تدريبية لي كانت دورة في المديرية العامة مع مدربين فرنسيين وبعدها صارت الدورات تتلاحق وفي آخر واحدة منها بت أنا مدربة إطفاء. وفي كل الدورات صار وجود الصبايا لافتاً وبات وجود مدربات إناث مقبولاً بعد أن لمس الجميع قدراتهن العالية».
الطريق رصفته متطوعات سابقات «كن مثالاً لي يقمن بمهمات على الأرض، ولكن الأعداد لم تكن كبيرة كما هي عليه اليوم».
شباب مركز جونيه كانوا يدعمون الصبايا ويشجعونهن على الخروج في مهمات إلا أن البعض في مراكز أخرى كانوا أكثر تشكيكاً كأنهم لم يهضموا بعد حضور المرأة على الأرض. حضور لا يخلو من التحديات. «ثمة مهمات تتطلب قوة بدنية وجسدية، وقد نكون أضعف بنيوياً من الشبان لكننا نتساعد جميعاً. ليس خطاً أن تتضايق الصبية في مهمة ما فهذا قد يحدث مع الرجال أيضاً، ولكل واحد نقاط ضعفه التي يعمل على تقويتها.
بعضنا لا يمكن أن يرى جثة او يخشى الأماكن الضيقة أو الحرائق وكلنا نفكر بأهلنا اثناء الخطر لكن التعاون هو سر النجاح».
المركز مثل بيتها وحين يدق جرس الهاتف ترتفع نسبة الأدرينالين عندها.
«المهمات لا تشبه بعضها ولا يمكن التكهن بما ينتظرنا إلا عند وصولنا وكل مهمة حتى أبسطها تحمل نصيبها من المخاطر والخوف».
نزولها الى المرفأ عند الإنفجار كان من أصعب التجارب وأقساها نفسياً «خسرنا شباباً من فوج الإطفاء مقربين منا» رغم المخاطر والصعاب المادية التي يمر بها متطوعو الدفاع المدني تصر ناديا على إكمال الطريق الذي اختارته وتعطيه من كل قلبها.
القوة بالابتكار لا بالوزن
كوثر حرب صبية ناعمة الملامح متطوعة في مركز الغبيري شغفها تجاه الأعمال الإنسانية وحبها للمساعدة دفعاها للتطوع «نحن النساء لدينا عاطفة مفرطة وحس إنساني عال وهذا ما يجعلنا مؤهلات لمساعدة من حولنا».
منذ أربع سنوات تطوعت وأكملت دراسة الماستر في كلية الحقوق مختارة الجرائم المعلوماتية والإلكترونية. لم تلق كوثر معارضة من الأهل في خوض هذه التجربة التي لا تزال غير مألوفة تماماً في المجتمع فهم شجعوها وساندوها لكنهم أيضاً نبهوها الى المخاطر التي تنتظرها. مخاطر لا تخيف الصبية المندفعة التي توكل أمرها الى ربها وتحرص على التزام كل خطوات الوقاية وتنفيذ ما تلقته من تدريبات.
فخورة هي بمركز الغبيري حيث الكل يشجعون العنصر النسائي ويضعونه في الواجهة ويدفعون بالمتطوعات الى الخروج في مهام مثلهن مثل الرجال تماماً. لا تتردد في قبول أي مهمة يطلب منها المشاركة فيها لكنها تعترف أن لديها ميلاً أكبر للإسعاف فهي تتفاعل مع الشخص المريض وتحاول تقديم الدعم النفسي له.
مثل غيرها خضعت كوثر لدورات تدريبية نمّت من خلالها قدراتها لذلك هي ترفض مقولة ان الفتاة ضعيفة او غير قادرة جسدياً «الأمر ليس بالوزن بل بالقدرة على الابتكار والتعامل مع ما يواجهنا. شخصياً لا أخاف من شيء وقد عملت لأكتسب القوة والقدرة على التحكم بمشاعري. في انفجار المرفأ رأيت مشاهد مأسوية وأشلاء وأضراراً، لكنني تمالكت نفسي لأتمكن من التصرف باحتراف وتقديم المساعدة. لا بد ان افصل بين العاطفة والخدمة ولو لم أكن ضمن خدمتي لربما كنت لأنهار لو رأيت مصاباً او جثة لكن في المهمات اي تصرف ينم عن ضعف قد يسيء الى المصاب ومن حوله».
لا تنكر الصبية انها تهتم بشكلها وأظافرها لكن ذلك لا يتعارض مطلقاً مع كفاءاتها وتعتقد ان كل امرأة قادرة ان تكون لايدي وامرأة قوية في الوقت نفسه.
صور كثيرة عالقة في البال لكن اقساها صورة سحر فارس شهيدة فوج الإطفاء في انفجار المرفأ. هي تشبهها بالبدلة وفق ما يقال لها وهذا الشبه مع الصبية الشهيدة لا يزال يؤثر بها كما كل ما رأته في انفجار المرفا وقبله في تجربتها الأولى في سلسلة الحرائق التي عمت لبنان منذ سنتين وتنقلت بين مناطقه.
لا شيء سيعيقها عن متابعة الخدمة الإنسانية التي اختارت سلوك طريقها ورغم صغر سنها توجه كوثر رسالة الى كل الصبايا بألّا يخفن أو يتركن عقبة تقف في وجوههن.
مسيرة حافلة بالشغف
جولي فضل باز تختلف عن غيرها من المتطوعات الشابات فهي متزوجة وأم لأربعة اطفال تربت في أجواء الدفاع المدني ومن ثم عشقت وتزوجت في تلك الأجواء. والدتها كانت تعمل في أحد مراكز الدفاع المدني وطفلة كانت تشهد على اندفاع الجميع وإسراعهم للمساعدة. كانت أول صبية تتطوع في الدفاع المدني وفي العام 2003 نالت بطاقتها بعد أن كانت تخدم سابقاً في المراكز بلا بطاقة… فوراً دخلت الى عمليات الإنقاذ والإسعاف والحرائق وخضعت لدورات تدريبية عدة في كل المجالات وتفخر ببدلاتها المختلفة للحريق والغطس والخدمة والثلج…
الزواج من زميل لها كان أمراً طبيعياً «لكن في الفترة الأولى عانيت من خوفه علي مع مشاركتي في كل مهمة ففضلت ان نكون في مركزين مختلفين». حين تدخل لإطفاء حريق أول ما تفكر فيه هو أولادها فتصلي وتطلب الى الرب أن يعيدها إليهم سالمة، لكنها تفكر أكثر بالناس المحاصرين بالنيران وتعيش صراعاً داخلياً ينتصر فيه الواجب دوماً. «اليوم صرت أدرس خطواتي أكثر وأخشى على من يرافقني بقدر خشيتي على نفسي».
من الصور التي لا تستطيع محوها من ذهنها صورة رافقت أول مهمة لها حيث استدعي الفريق لرفع جثة شخص متوفٍ. «تفاجأت عند وصولنا بأن رأسه مفصول عن جسمه، جمدت في مكاني فصرخ بي زميلي طالباً مني العودة الى السيارة فبقيت جامدة فأمسكني بيدي وأعادني إليها وبقيت يومين غير قادرة على استيعاب المنظر».
شيئاً فشيئاً تعودت لكنها حتى اليوم تفضل إسعاف مريض على رفع جثة. «مع الأيام يقسو قلبنا وعودنا وأتمنى لأبنائي أن يمروا بهذه التجارب ليعرفوا مثلاً ماذا يمكن أن يحل بالمدمن او السكير أو من يتصرف بلا تفكير ولا ينتبه لما يقوم به».
تقوم جولي بدورات تدريبية لسيدات وربات بيوت من مناطق مختلفة لتوعيتهن على طريقة التعامل مع المخاطر المنزلية وتعطيهن من خبراتها ليكتسبن القوة والوعي.
بفخر تقول المتطوعة الأم إنها كانت اول صبية تنزل على الحبل من مبنى عالٍ، خافت بداية ومع الوقت تعودت فالتدريب هو الذي يحافظ على لياقة المتطوع البدنية ويعلمه التقنيات الضرورية ليكون دوماً على جهوزية تامة ومستعداً لاستعمال المعدات باحتراف. لا ترى جولي ان المتطوعة تحتاج الى قوة بدنية ولا سيما اليوم مع وجود المعدات المتطورة لرفع الأثقال، والعمل لا يحتاج الى قوة بل الى تفكير واعٍ وقدرة على إدارة العمليات على الأرض بذكاء وخبرة.
تعترف أن الأمور لم تكن سهلة على المتطوعات سابقاً وكان هناك تمييز بين الرجال والنساء سواء في المراكز او بين الناس «حين كان الناس يرونني على الطريق أساعد في الإسعاف كانوا يستغربون، أما اليوم فالأمر اختلف تماماً وعدد المتطوعات الجديدات الى ازدياد لكنهن بحاجة الى «دعك» تقولها ضاحكة والى الكسر من أنوثتهن قليلاً».
أسوأ ما مرت به جولي كان يوم انفجار المرفأ حين تلقت فيديو لأشخاص بحاجة الى إنقاذ وتفاجأت بوجود ابنة خالتها بينهم. هرعت مع رفاقها الى هناك وساهمت في إنقاذ العديد من الأشخاص من داخل بيوتهم لكن حين وصلت الى ابنة خالتها كان الأوان قد فات. صدمة آلمتها جداً ولا تزال.
شغف رافق كل حياتها وستمرره الى أولادها ومسيرة عشرين عاماً حافلة بالقصص المؤلمة والصعبة ولكنها حافلة بالدروس أيضاً. واهمها أن لا شيء في هذه الدنيا يوازي انقاذ شخص وإعادته الى عائلته.
تدخّل يخفف الضرر
لمى عيتاني متطوعة في مركز بيروت الإقليمي تتابع دراسة الدكتوراه في العلاج الفيزيائي. بعد إتمام دوامها في العيادة تتجه فوراً الى المركز. هي اختارت الإنسانية واختارت السلام والمساعدة لا سيما في الأزمات. تطوعها في الدفاع المدني جاء نتيجة تجربة شخصية ترويها قائلة: «مرة شب حريق في شقة قريبة منا ووقفت كما الجميع عاجزين عن التعامل مع الوضع الى أن أتى عناصر الدفاع المدني وكانوا يعملون كيدٍ واحدة وشعرت يومها أننا كمدنيين يجب أن نساعدهم وعندها خطرت ببالي فكرة التطوع. أهلي رفضوا الأمر بادئاً، سمحوا لي بحضور دورات في الدفاع المدني أما التطوع فكان قصة أخرى لا سيما مع صعوبة المواصلات الى المركز».
بعد انفجار المرفأ ازداد خوف الأهل وإصرارهم على عدم مشاركة ابنتهم في هذه الأعمال الخطرة لكن لمى تشبثت ورأت فيها واجباً إنسانياً وأن لا بد من وجود عنصر نسائي يتواجد على الأرض ويساعد. فبعض النساء المصابات لا يرضين بأن يقاربهن رجل وقد واجهت الصبية المتطوعة حالات مشابهة وهذا ما زاد من إصرارها.
هي تشارك في المهمات المختلفة لكن تفضيلها هو للإطفاء والتدخل لمساعدة الأشخاص العالقين في منازلهم وإخراجهم و تقديم الإسعافات الأولية لهم.
«الإطفاء مجال صعب تقول، وفيه مخاطرة لكن تدخلنا يخفف من الأضرار الإنسانية والمادية. وجودنا ألطف ودورنا كنساء يمنح المصابين طمأنينة، فالصبية المتطوعة تبقى الى جانب المصاب حتى النهاية لتهدئه وتطمئنه ولا تكتفي بنقله والاطمئنان عنه ثم المغادرة». لكن لمى تعترف أيضاً أن بعض الأشخاص لا يثقون بعمل النساء رغم كونهن يخضعن للدورات ذاتها والتدريب نفسه كما الرجال بلا أي تمييز ويملكن الكفاءة والخبرة ذاتها. قد لا تتحمل الفتاة بعض الأمور لكن العمل الجماعي هو الذي يساعدها في هذه الأوقات وكذلك تركيزها الكامل وتجاهلها لأي شيء آخر.
حدثان لا يزالان حاضران في ذهنها بكل مأسويتهما وصور ضحاياهما ودمارهما، انفجار المرفأ وانفجار الطريق الجديدة.
«لو كنت وحدي لأحسست حتماً بالخوف والعجز، لكننا تدخلنا كفريق وعملنا يداً واحدة. في ظروف كهذه لا يمكن ان ندع الخوف يغلبنا، كنت أتخايل لو أن عائلتي موجودة في الانفجار ماذا كنت لأفعل، وهذا ما دفعني لأبذل كل جهد. وما يطمئنني انه في كل مهمة شخص ( شاب او صبية) يتميز بالأقدمية والخبرة يدرس سلامة الموقع ويطلعنا إن كان علينا التقدم أم لا».
الأهل اقتنعوا أخيراً بعد ان لمسوا الخبرة التي اكتسبتها لمى والتقدم الذي احرزته وأن العمل لا يتضارب مع الأنوثة. «المركز بيتنا الثاني نحكي فيه قصصنا المهنية والعائلية، لا غيرة ولا منافسة حتى بين الصبايا بل تطلع الى الأكثر خبرة والسعي للوصول الى المستوى نفسه». كلمة أخيرة تتوجه بها لمى الى المجتمع حول أهمية دورات التوعية التي تخفف الكثير من الأضرار التي يمكن تلافيها بالوعي والمعرفة.
لا تمييز
مسيرة مشرفة لصبايا الدفاع المدني واكبتها الإدارة بإصرار تام على عدم التمييز وإعطاء الجميع الفرص والخبرات نفسها. «الأرض تفرز نفسها وشخصية المتطوع تحدد مهامه» يقول السيد منصور سرور رئيس شعبة الخدمة والعمليات ورئيس مكتب الخبراء.
«لدينا ثقة بالجنسين وكل متطوع يعطي حسب طاقته في المكان الذي يستطيع فيه العطاء والإنجاز. ومن لديه المعرفة يمكن أن يشارك في اية مهمة كانت. المتطوعات اليوم يقدن الشاحنات وينفذن عمليات قص السيارات مثلا وغيرها من المهام لأنهن يخضعن للتدريبات ذاتها. حتى المعدات الهيدروليكية الثقيلة التي تحتاج الى بنية قوية إذا شاءت الصبية المشاركة في استخدامها يمكنها ذلك.
نحن نشجع الكل ولا تمييز مطلقاً عندنا. حتى أننا لا نشجع الفتيات على التطوع فحسب بل نشجع الجميع» يؤكد سرور أن تطوع الشابات بدأ منذ العام 2000 تقريباً لكن العدد اليوم صار بارزاً نتيجة حملات التوعية داخل المدارس التي جعلت التطوع أمرأ مألوفا بين الشبان والشابات بعد التخرج. نقطة أخيرة يصر عليها سرور أن الدفاع المدني ليس جمعية بل إدارة رسمية تتبع لوزارة الداخلية والتطوع فيها يخضع لآلية معينة.