اليورو | قصة عملة وتاريخ في محاولة “تكامل” !
ومنذ منتصف يوليو (تموز) عام 2002 لم تقل قيمة اليورو عن دولار واحد، وإن كانت العملة الموحدة شهدت هبوطاً لدى إطلاقها وتباينت قوتها على مدى عمرها منذ إطلاقها رسمياً في أول يناير (كانون الثاني) 1999.
أما اهتمام الأخبار بهبوط سعر صرف اليورو بهذا الشكل فيعود إلى أنها أصبحت ثاني أهم عملة في العالم بعد الدولار الأميركي، وتستحوذ وحدها على خُمس المعاملات الدولية تقريباً. فما تاريخ العملة الأوروبية الموحدة منذ أن كانت فكرة، والأزمات التي مرت بها منذ إطلاقها رسمياً حتى الآن؟
فكرة لثلاثة عقود
بدأت فكرة عملة موحدة لبعض الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وبعد أن طرح رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت وينستون تشرشل عام 1946 أن تشكل الدول الخارجة من الحرب “الولايات المتحدة الأوروبية”، لكن من دون بريطانيا.
بعد ذلك بنحو خمسة أعوام، شكلت ست دول أوروبية هي بلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا وألمانيا الغربية (لم تكن توحدت الألمانيتان بعد) “منطقة الفحم والصلب الأوروبية” (ECSC) التي تعد النواة الأولى لما سيصبح في ما بعد “الاتحاد الأوروبي”. وفي عام 1957 تشكلت عبر “معاهدة روما” منطقتان، هما المنطقة الاقتصادية الأوروبية ومنطقة الطاقة الذرية الأوروبية.
وفي العام التالي دخلت اتفاقية “السوق المشتركة” حيز التنفيذ. وفي 1967 جرى دمج كل تلك الاتفاقيات لتكوين “المجموعة الأوروبية”، وفي العام التالي ألغيت الرسوم الجمركية وكل قيود الاستيراد والتصدير بين دول المجموعة.
طوال ذلك الوقت كانت كل دولة تتعامل بعملتها الوطنية، وكانت قاعدة الذهب التي أقرت في مؤتمر تأسيس صندوق النقد الدولي (المعروفة باسم اتفاقيات بريتون وودز) هي التي تحكم سعر الصرف بين الدولار الأميركي وبقية العملات الرئيسة في العالم، استناداً إلى معيار من الذهب.
في مطلع السبعينيات أعلنت الولايات المتحدة تخليها عن قاعدة الذهب وعن سعر الصرف الثابت للدولار مقابل العملات الأخرى. وفي ذلك العام (1971) اتفق قادة المجموعة الأوروبية على خطة للاتحاد النقدي والاقتصادي تنفذ على ثلاث مراحل في مدة عشر سنوات. وعرفت باسم “خطة فيرنر” نسبة إلى رئيس وزراء لوكسمبورغ بيير فيرنر.
لكن مع تخلي أميركا عن اتفاقيات بريتون وودز انهارت خطة فيرنر تلك. وظلت فكرة الاتحاد النقدي لدول المجموعة الأوروبية الست قائمة تبحث عن وسيلة لتحقيقها. في العام التالي (1972) أقرت المجموعة الأوروبية “تعاونية العملة الأوروبية”، وبمقتضاها تحددت التغيرات في سعر صرف عملات الدول الست ما بين عملاتها الأخرى بهامش 2.25 في المئة أعلى أو أقل من سعر صرف محدد لعملات الدول الأعضاء.
ومع انضمام بريطانيا والدنمارك وجمهورية إيرلندا للمجموعة الأوروبية في العام التالي (1973) أصبح عدد الأعضاء تسعة. وفي العام التالي (1974) أصبح “المجلس الأوروبي” مؤسسة دائمة تمثل أعلى سلطة في اتحاد المجموعة الأوروبية.
العملة الموحدة الأولى
في عام 1974 أطلقت “وحدة العملة الأوروبية” كعملة افتراضية تضم العملات الوطنية للدول الأعضاء ضمن النظام النقدي الأوروبي وكانت تلك أول عملة أوروبية موحدة، لكنها غير متداولة بين الجمهور، ويقتصر استخدامها على التعاملات المصرفية بين الدول الأعضاء في المجموعة الأوروبية. ولن يطلق عليها اسم “يورو” إلا في عام 1995. في ذلك الوقت كانت سلة عملات دول الاتحاد النقدي الأوروبي عند سعر صرف يقارب الدولارين (1.87 دولار للوحدة النقدية الأوروبية).
وظلت العملة الموحدة الافتراضية غير معروفة سوى للأنظمة المصرفية داخل المجموعة الأوروبية لعقدين من الزمن حتى إطلاق “اليورو” الحالي ليحل محل العملات الوطنية للدول الأعضاء في 1999. هناك بعض الأعضاء رفضوا الانضمام إلى الاتحاد النقدي، مثل بريطانيا. وعلى مدى الأعوام التي تلت إطلاق اليورو الافتراضي عام 1979 توسعت المجموعة الأوروبية بانضمام دول مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال.
وفي الثاني من يونيو (حزيران) عام 1998، بدأ البنك المركزي الأوروبي عمله من فرانكفورت ليضع السياسة النقدية لدول المجموعة الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وعددها 11 دولة اتفقت على توحيد العملة بدءاً من مطلع العام التالي.
في الأول من يناير عام 1999، أطلقت العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” في دول الاتحاد النقدي الأوروبي ليتم التعامل بها إلى جانب العملات الوطنية، لكن فقط للحسابات المصرفية وغيرها من المعاملات، على أن تصبح نقداً للتداول في اليوم الأول من عام 2002. كان سعر اليورو عند إطلاقه ما بين 1.16 و1.18 دولار لليورو الواحد، لكنه في الأشهر الأولى شهد انهياراً في قيمته حتى وصل إلى 82.3 سنت لليورو الواحد.
وعند إطلاق العملات للتداول بين الجمهور في مطلع 2002 كان اليورو قد استعاد قيمته الأولى تقريباً. وظل لمدة شهرين يستخدم إلى جانب العملات الوطنية التي ستختفي من التداول بنهاية فبراير (شباط) 2002.
شكوك وأزمات
تباينت التوقعات لدى إطلاق اليورو قبل نحو عقدين من الزمن، وعما إذا كان سيصمد كعملة دولية تأخذ مكانتها بين العملات الرئيسة. وعلى الرغم من الشكوك والأزمات فإن اليورو صمد، وأصبح الآن ثاني عملة عالمياً بترتيب نصيبه من التعاملات الدولية.
ومع توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، وانضمام دول من أوروبا الوسطى والشرقية، أصبحت الدول التي تستخدم اليورو كعملة وطنية 19 دولة هي النمسا وبلجيكا وقبرص وأستونيا وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليونان وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا ولوكسمبورغ ومالطا وهولندا والبرتغال وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا.
وهناك خمسة كيانات ليسوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي، لكنها تستخدم اليورو كعملة وطنية هي أندورا وموناكو والجبل الأسود وسان مارينو ومدينة الفاتيكان. أما الدول التي كانت ضمن الاتحاد الأوروبي حتى عام 2019 ولم تنضم لليورو فهي بلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك والدنمارك والمجر ورومانيا وبولندا والسويد وبريطانيا. وهناك دولتان أوروبيتان ليستا ضمن الاتحاد الأوروبي ولا اليورو وهما النرويج وسويسرا.
ظلت قيمة اليورو تتأرجح ما بين أكثر من 1.4 دولار لليورو إلى أقل من 1.14 دولار لليورو خلال العقدين، لكنها لم تهبط دون دولار واحد لليورو الواحد إلى الآن. وكانت أول أزمة كبرى تتعرض لها العملة الموحدة هي أزمة الديون لبعض الدول الأوروبية عام 2010 التي بدأت باليونان ثم جمهورية إيرلندا.
لكن ألمانيا أكبر اقتصاد في أوروبا تدخلت بقوة لدعم العملة الأوروبية الموحدة والحيلولة دون انهيارها. وفي عام 2013 كانت أزمة أخرى هذه المرة في القطاع المصرفي في قبرص، ومرة أخرى تدخلت الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها ألمانيا لدعم اليورو.
أما الآن، فالأزمة عامة وشاملة تقريباً بسبب الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا التي جاءت مباشرة بعد أزمة كورونا. وقبل الجائحة حافظ اليورو على قيمته عند نحو دولار وربع الدولار لليورو الواحد لفترة معقولة.
ومع احتمالات تشديد العقوبات على روسيا التي تتضمن فرض حظر تام على واردات الطاقة لدول أوروبا واستمرار الحرب في أوكرانيا، مع ما تسببه من ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، يتعرض اليورو لضغط هائل يمثل مشكلة للبنك المركزي الأوروبي الذي يضع السياسة النقدية للدول الأعضاء في منطقة اليورو، ذلك في الوقت الذي يشهد فيه الدولار الأميركي ارتفاعاً في قيمته لمستويات غير مسبوقة منذ نحو 20 عاماً.