مئات العائلات مهدَّدة بالموت تحت الركام في طرابلس..هل يعجّل سقوط بناء ضهر المغر ؟!
كان بعض سكان درج ضهر المغر في طرابلس ما زالوا في الطرقات خوفاً من سقوط أبنيتهم، إثر انهيار مبنى النشار يوم الأحد 25 حزيران 2022، مودياً بحياة الطفلة جمانة كيدو (6 سنوات) فيما تمكث والدتها لينا في غرفة العناية الفائقة في المستشفى الحكومي في طرابلس، حين حضر مصطفى (5 سنوات)، شقيق جمانة، يبحث عن أمه وشقيقته ويسأل عنهما، ليشرع بالبكاء الحاد بعدما لم يجد سوى الركام وفيه أغراض منزله وألعابه الصغيرة وثياب عائلته.
على الضفة الشرقية لنهر قاديشا الشهير بـ “نهر أبو علي”، يتمدَّد حي ضهر المغر مُشكِّلاً نقطة مركز دائرة الفقر في طرابلس، من البحصة، الحارة البرانية، القبة، فالتبانة والبداوي. تُعتبَر المنطقة الفقيرة امتداداً للمدينة التاريخية التي بُنيَتْ في العصر المملوكي، وتمتاز عن باقي المدن التاريخية في لبنان بالمباني والمساكن القديمة التي ما زالت مأهولة من عائلات متواضعة الحال حيناً، فقيرته في معظم الأحيان. هنا يشكِّل الزمن عاملاً حاسماً في ازدياد مخاطر انهيارات الأبنية المتهالكة، التي لم تعرف الصيانة منذ عقود، مع ما تشكِّله من خطر على البشر والحجر والهوية المعمارية التاريخية للعاصمة المملوكية الثالثة في العالم العربي، الفيحاء، بعد القاهرة وحلب (قبل الدمار الذي طالها منذ أحداث 2011). وهنا يعيش السكان “بألطاف الله” كما يقول المهندس المعماري وسيم ناغي حيث تكثر المباني المتهالكة المهدَّدة بالانهيار.
256 مبنى مهدَّداً بالانهيار في طرابلس
ليس سقوط مبنى النشار على رؤوس قاطنيه سوى إحدى القنابل الموقوتة التي انفجرت في طرابلس، التي دقَّتْ ناقوس الخطر حول قنابل موقوتة أخرى، لا يعرف أحد متى تنفجر، قوامها المنازل والأبنية المتهالكة في بعض أنحاء طرابلس ومحيطها. يبدو الركام جرس إنذار إضافي حول ما يمكن أن يكون عليه الآتي من الأيام. تقول دراسة أنجزتْها دائرة الهندسة في بلدية طرابلس في 2021، وقائمة الجرد التي أعدَّتْها المديرية العامة للآثار، إنّ ثمة ما يزيد على 256 بناءً متصدِّعاً وعرضة للانهيار، حسب رئيس بلدية طرابلس رياض يمق.
لكنّ المهندس د. وسيم ناغي يرى أنّ “العدد أكثر من ذلك بكثير، لا بل قد يصل إلى ستة أضعاف هذا الرقم، لأنّ عمليات المسح تجري على المناطق الخارجية”. ويرى أنّ لدى الدخول في زواريب المدينة القديمة “سيكتشف الباحث أضعاف هذه الأرقام”. وينطلق ناغي من خبرته العلمية ليضيف “المبنى المنهار نموذج عن باقي المباني، فهو مبني على طراز منتصف القرن العشرين إلّا أنّه متهالك”، مرجِّحاً أن يكون السبب تعرُّضَه لعوامل الزمن والرطوبة، ممّا أدى إلى تآكل حديد التسليح، وتزايد نسبة الكربون في الباطون، ممّا جعل منه بناءً هشّاً وعرضة إلى انهيارات جزئية أو كاملة، ولكنّ الخطورة تكمن في أنّ الانهيار التامّ قد يحصل فجأة. ويلفت ناغي إلى ألّا أرقام دقيقة عن عدد المباني المتهالكة في طرابلس، خصوصا بسبب عدم إمكانية الأفراد القيام بهذا المسح الهندسي الكبير والدقيق الذي يحتاج إلى مسح خارجي وداخلي للمباني، وهي كثيرة.
وأعاد تسبُّب انهيار مبنى النشار بمقتل الطفلة جمانة كيدو هذه المعطيات ومعها المخاطر المحدقة بمئات العائلات، التي يتصيَّد أفرادَها، بشكل شبه دوري، انهيارُ مبنى من هنا وآخر من هناك، إلى طاولة البحث وضرورة تحديد المسؤوليات التي سارع المواطنون والمعنيون إلى المطالبة بها، بينما تتقاذف السلطات، من محلية وتنفيذية ووزارات، الملفَّ وكأنّه كرة نار لا يريد أحد الإمساك بها.
وعليه، أصدر حزب “لنا” طرابلس بياناً اعتبر فيه أنّ “الطفلة جمانة ضحية غياب سياسات إسكانية عادلة وضحية دولة لا تقوم بمسؤولياتها وتنازلت عن كافة أدوارها”. ولفت الحزب إلى أنّ “وزير الداخلية كان يعلم فتقاعس وأهمل كل المراسلات بينه وبين البلدية، التي توثّق خطر هذا البناء وأبنية أخرى”. ودعا الحزب في بيانه إلى “تحقيق عاجل وجدي وشفاف يحاسب الوزير بسام مولوي، وكل من يظهره التحقيق متورطاً في الإهمال”.
ونشرت النائبة حليمة القعقور من حزب “لنا”، على حسابها على تويتر، تغريدة تحت عنوان “كان يعلم” مُرفَقة بصورة لوزير الداخلية، وقالت “وزير الداخليّة بسام مولوي كان يعلم باحتمال سقوط الأبنية المتهالكة في طرابلس، وحاجتها للترميم العاجل، بحسب ما بيّنته الوثائق والمراسلات بين بلديّة طرابلس وبينه. إهماله القاتل أودى بحياة الطفلة جمانة ديكو، ويهدّد آلاف الأسر اليوم”. ونشرت القعقور على صفحتها مستندات ممهورة بتوقيع وزير الداخلية، عبارة عن مراسلات بينه وبين بلدية طرابلس مع فقرة تقول: “قبل انهيار مبنى ضهر المغر على رؤوس قاطنيه، وسقوط الطفلة جمانة ديكو ضحيّة إهماله القاتل، تُبيِّن هذه المراسلات بين بلدية طرابلس ووزير الداخليّة بسام مولوي علمه وعدم تحرُّكه بشأن الأبنية الآيلة للسقوط في المنطقة، وتوقيعه عليها”.
وتفيد المراسلات أنّ وزير الداخلية عرض رسائل بلدية طرابلس على الهيئة العليا للإغاثة التي قالت إنّ ترميم الأبنية وتدعيمها يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء. وعليه عرض وزير الداخلية بسام المولوي الموضوع على الحكومة التي قرَّرت تشكيل لجنة وزارية، من ضمنها وزراء الداخلية والعدل والأشغال والمالية والثقافة، للبحث في كل المباني المتهالكة في لبنان. وانتهت المراسلات إلى قرار يفيد أنّ الترميم يقع على عاتق المالكين وبلدية المنطقة. وعليه دارت المراسلات لمدّة نحو عام بين الإدارات والوزارات ولجانها، لتنتهي قضية مبنى النشار مع سقوطه على رأس قاطنيه وقتل الطفلة جمانة ديكو، من دون تحريك أيّ ساكن أو إجراء حمائي. وهو مصير يخشاه آلاف القاطنين في المباني المهدَّدة بالسقوط في الفيحاء من دون أن يكون لديهم خيار آخر يأويهم من العراء.
بلدية طرابلس
مخاوف الأهالي والسكان تفجَّرتْ في وجه رئيس بلدية طرابلس رياض يمق خلال زيارته إلى منطقة ضهر المغر فقُوبِل بالسخط خلال عملية رفع الأنقاض. وقف جيران مبنى النشار وأخبروا كل مَن تجمهر مِن حولهم كيف أنّ العناية الإلهية وحدها أنقذت الكثير من الأرواح. هنا حمى جدار فلان وهناك ردَّ حائط حديقة الموت عن عائلة بأكملها مع أطفالها، والأهم أنّ المبنى انهار يوم الأحد فكان الدرج الذي يؤدّي نحو القبة ويسلكه مواطنون كثر فارغاً من المارة.
يعبّر يمق في حديثه مع “المفكّرة” عن احترامه مشاعر الناس، فهم بالنهاية “يحمّلون المسؤولية لمَن يمثِّل السلطة المحلية، ولا يعلمون عن الجهود التي بُذِلت في هذا المجال”. ويوضح أنّ “هذا المبنى قديم العهد، وأحلنا إلى مصلحة الهندسة طلباً لمعرفة إذا ما توجَّهت إنذارات إلى قاطنيه، وإذا ما كان هناك طلبات بالترميم”.
يتسلّح يمق لرفع المسؤولية الشخصية عنه بقائمة من المراسلات والمسوح الميدانية والإنذارات التي تجاهلتْها السلطات الرسمية. ويكشف عن إرسال مجموعة كتب إلى وزارة الداخلية للمطالبة بإنشاء جدران إسناد ودعم لبعض العقارات في المدينة. إلّا أنّ الحكومة اللبنانية، عوضاً عن إقرار هذا الطلب العاجل، قرَّرتْ في 24/1/2022 “تأليف لجنة برئاسة وزير الداخلية والبلديات وعضوية وزير العدل، وزراء الأشغال العامة والنقل، المالية، الثقافة والصناعة لدراسة أوضاع الأبنية المتداعية والمتصدعة على كافة الأراضي اللبنانية”. يأسف رئيس البلدية لهذا الأمر لأنّ “حال طرابلس ليس كغيرها من المدن، وتتطلَّب تحرُّكاً عاجلاً من قِبل الدولة، فإذا كان في إحدى المدن بناء متصدِّع، ففي طرابلس مئة، ولا يجوز ربط مصير الآلاف في المدينة بمصير لجان ودراسات المناطق كافة”.
كما أبرز يمق كتاباً موجَّهاً إلى وزارة الداخلية في 20 كانون الثاني 2022 لطلب تأمين التمويل اللازم لتدعيم الأبنية المتصدِّعة ذات الطبيعة الإسمنتية والأثرية في مدينة طرابلس، التي تشكِّل خطراً على السلامة العامة. وقد أحال وزير الداخلية هذا الكتاب إلى مجلس الوزراء في 18 آذار 2022. وأرسل رئيس البلدية كتاباً جديداً بهذا الشأن، في 26 أيار 2022، يتضمّن نتيجة المسح الذي توصَّل إلى وجود 236 عقاراً تقطنها الفئات الفقيرة، وليس للبلدية القدرة المالية للقيام بأعمال التدعيم والترميم، إذ قدَّرت البلدية الكلفة بـ 20 مليار ليرة لبنانية تقريباً. هذا الكتاب، أحاله وزير الداخلية بدوره إلى مجلس الوزراء في 12 حزيران 2022.
يقرُّ يمق بأنّ السلطة المحلية “وصلت إلى مرحلة العجز، وكأنّ هناك تقصُّد لإفشالها بفعل محاصرتها مالياً”، ويضيف “نقوم بما يمكننا فعله في غياب المال وحجز أموالنا في مصرف لبنان، فنحن لا يمكننا استخدام قرش واحد من دون موافقة وزارة الداخلية، نحن نوجِّه إنذارات بالإخلاء ونكرِّر توجيهها مراراً، وتقوم ورش الأشغال بتدعيم المباني المتصدِّعة في بعض الأحيان، ولكنْ، عندما تذهب شرطة البلدية لطلب الإخلاء من الأهالي، يواجهها هؤلاء أحياناً بمقولة: لا نملك مأوى آخر، نفضِّل الموت تحت سقف بيوتنا، أو أمِّنوا لنا بيتاً بديلاً”. ويؤكِّد يمق “لا يمكننا تأمين بيت بديل لجميع الناس، لأنّ الترميم على عاتق المالك، كل ما يمكننا فعله في أقصى الحالات هو ترميم البيت على نفقتنا ووضع إشارة دَين ممتاز على الصحيفة العينية للعقار، إلّا أنّ ذلك يحتاج إلى إنفاق أموال طائلة غير متوفِّرة لدى البلدية”.
وردّاً على سؤال حول ضمانة عدم تكرار حادثة الانهيار، يقول يمق “دم الشهيدة يجب أن يشكِّل ضمانة ودافعاً لتعجيل الحلول، حاليّاً سقطت ضحية واحدة، لكنّ سقوط بعض المباني المأهولة والمهجورة في مناطق أخرى كالتبانة، باب الرمل، والأسواق القديمة قد يؤدّي إلى تعريض حياة المئات للخطر من القاطنين والمارة”.
مخاطر مرتفعة للغاية
يتحدَّث د. وسيم ناغي عن مخاطر شديدة تواجه المناطق المكتظّة المشرفة على الضفة الشرقية لنهر أبو علي، موضحاً أنّ “هذه المنطقة ذات نسيج عربي قديم متلاصق، أضيفت إليها أبنية خراسانية بطريقة عشوائية، وفيها تراكُم بناء غير مدروس هندسياً”.
يلفت ناغي إلى أنّنا “أمام قنابل موقوتة بسبب الهزات الأرضية الخفيفة أو المتوسّطة، وكذلك العواصف الشديدة، والإضافات العشوائية خلال مواسم التفلُّت الأمني”، كما في زمن الانتخابات والمحسوبيات والزبائنية وهو ما وثّقته “المفكّرة القانونية“. ويشير ناغي أيضاً إلى مجموعة من العوامل التي تنذر بخطر شديد، إذ عانت المنطقة من الحرب الأهلية، كما أنّها تعاني من غياب الصيانة، وتشعُّبِ الملكية العقارية بين الورثة في المدينة التاريخية، ناهيك بالبناء المخالِف الذي يتم بشكل سريع لتجنُّب وقفها”، كما أنّ “هناك أبنية مشيَّدة على ضفاف أبو علي حيث التربة غير سليمة ومشبَّعة بالرطوبة والمياه”.
يعتقد د. ناغي أنّ بسبب غياب سياسات إسكانية وتأمين سكن بديل، وإسقاط طرابلس من كل الخطط التي جاءت بعد انتهاء الحرب الأهلية، من صندوق المهجَّرين إلى صناديق الإعمار الخاصة، التي رفعت آثار الاحتلال عن الجنوب، ما زال تاريخ الحرب مرسوماً على الأبنية والأحياء في الفيحاء.
يأسف ناغي لكوننا أمام مشكلة معقَّدة في طرابلس لأنّ “كلفة معالجة الأبنية المتصدِّعة مرتفعة جداً، وليس بمقدور البلدية تحمُّلها، ولا الوزارات، ولا الهيئة العليا للإغاثة، لأنّ مجرَّد تعهُّد ترميم مبنى [يجعلك] مسؤولاً عن الحفاظ عليه، كما أنّ هناك مبانٍ تحتاج إلى إعادة بناء بالكامل بسبب تلف الهيكل الإنشائي”. ولكنْ، وفق ناغي، ثمّة “حلول مؤقَّتة لا تصمد طويلاً، كالتدعيم والإخلاء لقاء تأمين سكن مؤقَّت”، وفق ما يقول.
الذكريات الموجعة وخسائر لا تُعوَّض
تحاول فاتن، خالة الطفل مصطفى وشقيقة لينا التي تقبع في المستشفى إثر سقوطها مع المبنى ليعثروا عليها تحت الركام، البحث بين الأنقاض عن ملابس جمانة، ابنة شقيقتها، للاحتفاظ بها للذكرى. كانت الصغيرة تُلازمها في كل حين. تصمُت فاتن طويلاً ثم تتحدَّث عن حجم الفاجعة التي ألمَّتْ بالعائلة التي تهجَّرتْ من سوريا تحت وطأة الحرب الطاحنة، وتحديداً من إدلب، منذ 10 سنوات، لتقيم في هذا الحي المتواضع، “كانوا 10 أشخاص يعيشون داخل المنزل قبل أن تستقلّ كل أسرة منهم في بيت مستقلّ على ضفَّتَيْ أدراج ضهر المغر” كما تقول بِغصّة و”بقيتْ لينا وعائلتها”.
خارت قوة فاتن تحت وطأة المشهد المأساوي “كانت أختي لينا في أعلى الشرفة برفقة جمانة الصغيرة”. من هناك ندهت “تخاطب زوجها وابنها الموجودَيْن في أعلى الدرج، لتخبرهم بأنّها أنجزتْ توضيب الأغراض المتبقية في المنزل، وما هي إلّا لحظات حتى سقط البيت بأكمله، مال المبنى قليلاً، ثم انهار مُحدِثاً صوتاً قوياً يصم الآذان. ملأ الغبار المكان، وفاضت القلوب من الخوف”.
تجمّع الناس وبدأت عملية رفع الأنقاض، ومع مرور الوقت كان منسوب الخوف يرتفع، بينما لا تقوى فاتن على الوقوف بانتظار رفع الأنقاض عن شقيقتها وجمانة، صغيرتها، “لقيوا لينا وجمانة؟” تسأل ابنتها بين الحين والآخر، إلى أن أخرجوا لينا حية إنّما مصابة بكسور وجروح كبيرة، فيما بقي مصير جمانة مجهولاً.
بعد قرابة 30 دقيقة تعلو الصيحات من جديد، ها هم قد عثروا على الطفلة جمانة تحت الأنقاض: “كان جسدها الطري أضعف من مقاومة الأقدار وأكوام الركام”، تقول وهي تبكي.
لم تحظَ جمانة بوداع يليق بسنواتها القليلة التي عاشتها في ما اصطُلح على تسميتها حياة. حياة ملؤها الأسى والشقاء. لم ينتظر الأهل والجيران الإجراءات الروتينية، سارعوا إلى دفن الصغيرة تحت جنح الظلام، فيما ساد السخط والحزن والخوف من مصير مماثل في المنطقة التي تكاتف أهلها للتخفيف عن بعضهم البعض.
عندما زارت فاتن شقيقتها لينا، والدة جمانة، في المستشفى، كانت الأخيرة عاجزة عن الكلام “بس كانت بالكاد تسأل وين جمانة؟، كانت تبذل الجهد الشديد لتتفقَّد صغيرتها، حاولنا طمأنتها ريثما يطلع الصباح”. في اليوم التالي، وما إن دخلت فاتن لزيارة لينا في غرفة العناية الفائقة حيث تعاني من كسور وإصابات بالغة في جسدها، عدا عن تأثير عملية استئصال الطحال: “بادرتني بالحديث، بعرف أنه جمانة ماتت، بالليل جاء أحدهم إليّ وحضنني وقال لي وداعاً”، تضيف عاجزة عن حبس دموعها.
تهجّرت لينا من سوريا وهي تعاني الأمرَّيْن من حروق في جسدها بفعل الحرب، تحمَّلتْ أوجاعها من أجل عائلتها، “وها هي اليوم تصارع داخل غرفة العناية المركَّزة من أجل البقاء”، تختصر فاتن فصولاً من جلجلة حياة شقيقتها.
الموت فعلٌ دائم في ضهر المغر
رحلت الصغيرة جمانة فيما تحوَّل الشارع مأوى للعديد من العائلات التي كانت تسكن المبنى المنهار وآخر ملاصقاً له. يشعر هؤلاء أنّهم متروكون وحدَهم يواجهون مصيرهم، والدولة بالنسبة إليهم عبارة عن شريط نايلون وظيفته التحذير من وجود خطر فقط لا غير، من دون إجراءات ترميم أو إصلاح أو تدعيم. يحمد السكان الله في كل دقيقة “الحمد لله كان نهار الأحد، لم يكن هناك حركة كثيفة وقت العصر على درج ضهر المغر الذي يستخدمه أبناء القبة للصعود والنزول إلى أشغالهم من أجل توفير بدل النقل، وإلّا لسقط الكثير من الضحايا”.
أمام مطعم مريم للمأكولات البيتية، تجلس الناجية عايدة حسين على كنبة وهي تعاين أطلال المبنى المنهار. إلى جانبها يجلس صغيرها الذي يعاني من إعاقة حسية، فيما أرسلت ابنها الآخر إلى منزل والدتها. تعيش عايدة في الكاراج المظلم في أسفل البناء المنهار برفقة زوجها المسنّ الذي يعاني من مشاكل صحية تمنعه من العمل “نحن مش قادرين نستأجر مسكن بديل، أعرف أنه ليس مسكن صحي أو آمن، بل هو مأوى لإغلاق الباب علينا في آخر الليل”. تشكو عايدة من كيفية التعامل معهم بعد الانهيار “أخذونا إلى أحد فنادق الميناء، كنا ثماني نساء، ستة أطفال، ورجل واحد، لم يتأمَّن غذاء كافٍ للأطفال الجوعى”.
قبل الانهيار تعرَّض مأوى عايدة لصدم من شاحنة جمع النفايات “ما علقوا فراماته وفات علينا”. عندما أمطرت السماء الأسبوع الماضي، “كانت المياه تسيل من أعلى البناء إلى أسفله كما النبع المتفجر”. تشعر اليوم أنّها أصبحت “بالشارع، لأن الأيام صعبة، والجار يمكن يتحملك لبعض الوقت وليس لكل الوقت”، وتردف “نحن كنا نؤمّن لقمة الخبز بصعوبة، فكيف لنا تأمين مأوى، كنا ندفع 700 ألف أجرة للدكانة التي نعيش فيها من دون مرحاض أو مطبخ”.
يروي أحد الجيران، “قبل انهيار البناء بيومين، تعرض البناء لصاعقة أثناء العاصفة الرعدية الماطرة، أدَّتْ إلى تشقُّق إضافي في بعض الجدران في الطابق ما قبل الأخير. كان الضرر ظاهراً للعيان وأصبح حائط المنزل مائلاً مع فراغات. أبلغ صاحب المنزل الجيران والبلدية بالأمر، وطلب من السكان وجيرانه الخروج من منازلهم بسرعة، استجاب الجيران لطلبه في اليوم الذي سبق الانهيار”، وشاءت الأقدار أن تعود لينا وابنتها لأخذ بعض الأغراض، لكنّ الانهيار كان أسرع منهما.
سرّع انهيار البناء في إخلاء المبنى الملاصق له، الذي تضرَّرتْ واجهته إلى حد كبير. تجلس ميرفت خضر، إحدى ساكنات المبنى الملاصق في الشارع أمام أكوام من أغراضها وأثاث منزلها تنتظر نقلها إلى أحد المستودعات بصورة مؤقَّتة. تشير إلى أنّها تقطن في غرفة ضيقة “لا نوافذ فيها” برفقة شقيقتها وابنها.
كانت ميرفت خضر تجلس في غرفتها “فجأة سمعت ما يشبه انفجارات هائلة متتالية، أصابني الذهول وخرجت مسرعة إلى الخارج. لم يكن بالإمكان رؤية أيّ شيء، كان الغبار يملأ المكان”. لم تجرؤ ميرفت على المبيت في منزلها “قضينا الليلة الأولى في الطريق، كنّا خايفين من الأيام الآتية، أصبحنا في العراء، أما المكان فلم يعُد آمناً بعدما جرى”.
الجيران شهود عيان تحت الصدمة
تروي ديما، إحدى جارات المبنى المنهار، أنّ لينا “وضعت بعد العاصفة على حالة الواتساب صوراً للأوعية داخل المنزل من أجل جمع الماء المنهمر من السقف، مرفَقة بعبارة: يا رب تسترنا”. وأضافت “بنايتهم في الصيف حريق والشتاء غريق”، وقد “أخبرت لينا الجيران بأنّهم تبلَّغوا قبل يوم من الانهيار بضرورة الإخلاء”.
ويقول هيثم، الذي يملك دكان في الحي، إنّه كان في محله عندما سمع صوتاً قوياً، خرج فوجد أنّ “هناك سَلخة (حجر كبير باللهجة الطرابلسية) سقطت من البناء”، “كنت أهمَّ بالنداء لأحد الرفاق للتوجُّه من أجل إزالة الضرر من وسط الطريق، فإذا بالمبنى يميل قليلاً، ثم يسقط”. ويقول “رأيت السيدة في أعلى المبنى وهي تهوي، ثم اختفت وسط الركام والغبار”، ليضيف “عندما تمكَّن رجال الإنقاذ من إخراج السيدة (لينا)، بدأت تقول “البنت بعدها تحت، كانت كتير خايفة ع بنتها”.
معجزة أنقذتنا
يعتبر الكثيرون من السكان أنّ “معجزة أنقذت أرواحنا وأرواح أطفالنا”. تخبر دنيا عَشوَش عن “استراحة صيفية” انتهت بكابوس: “كنت أجلس في الجنينة التي تزرعها أمي بالنباتات والورود أمام البناء المقابل لمبنى النشار برفقة ابنتي وشقيقتي وأولادها الثلاثة. سمعنا أصوات طقطقة، وتحطُّم زجاج، وصرخات: ارجعوا، وما هي إلّا لحظات حتى رأينا البناء يسقط بجانبنا”. تحمد دنيا الله أنّ “حائط الجنينة ساهم بحماية أرواحنا، ما عرفنا كيف حملنا الأولاد وهربنا إلى أعلى الدرج”. وأضافت “وجدنا أمي في حالة انهيار عصبي، واضطُرَّت شقيقتي إلى إعطائها حبة مهدِّئ للأعصاب، ما عم بقدر نام ولا دقيقة”، تقول لتُبيِّن حجم الرعب الذي اعتراها.
خلال عمليات رفع الأنقاض، تعرَّض الشاب محمد طارق العبد لنوبة قلبية، ويلفت مدير المستشفى الحكومي في طرابلس، ناصر عدرة، في حديث مع “المفكّرة” إلى “أنّه تمّ استقبال المصاب في الطوارئ، وأُجريَتْ له التحاليل اللازمة، وتبيَّن أنّه تعرَّض لنوبة قلبية وبحاجة سريعاً إلى إجراء تمييل للقلب”، مضيفاً “نحن ليس لدينا قسم للقلب فتمّ تحويله إلى مستشفى الشفاء”.
في الشفاء خضع طارق للإجراءات الطبية اللازمة. ويكشف شقيقه خالد أنّ كلفة العملية 2350 دولاراً أميركياً لتركيب “راصور وبالونين”، والعائلة لا تملك هذا المبلغ. ويروي أنّ “محمد اندفع تحت وطأة النخوة للمساعدة في عمليات الإنقاذ، وأثناء رفع الحجارة، أصيب بالدوار وغاب عن الوعي”، “الشاب لم يُصَبْ في انهيار المبنى إنّما خلال عمليات الإنقاذ، وقد تكفّلت وزارة الصحة بتغطية العلاج” لأنّه لا يتمتَّع بأيّ تغطية صحية، سواء ضمان اجتماعي أو تأمين”. فيما تؤكّد إدارة مستشفى الشفاء أنّها قدَّمتْ العلاج الواجب عليها، وأجرت العملية بدون تأخير أو انتظار لأيّ ضمانات حكومية.
الخطر داهم ودائم
يشعر أهالي ضهر المغر أنّ الموت تحت الركام سيكون مصير الكثيرين من بينهم في حال لم يُعمَدْ إلى ترميم الأبنية المتصدِّعة سريعاً. يرافقنا الشاب عبد الرحمن منصور في جولة على منازل ضهر المغر والسويقة، حيث يسود انطباع عام بتزايد الخطر على سلامة المواطنين مع مرور الوقت. بعض السكان يقتنع بالعيش في غرف من دون تهوئة، تشكِّل الأسطح قاعة جلوسهم المشترَكة، فيما تُخصَّص الأدراج ملعباً لأطفالهم.
يسكن الكثير من الأهالي داخل أقبية. هناك يجب استعمال أضواء الهواتف للدخول إلى بعض الأبنية المظلمة، لنكتشف أنّ أكثرية العائلات تخلّت عن اشتراك المولد الكهربائي، فيما يعيش أفرادها في ظروف صعبة في أماكن تفوح منها روائح العفن والرطوبة. لا يريد السكان في هذه الأماكن سوى سقفٍ يحميهم من العراء. تقول إحدى الشابات البالغة من العمر 23 عاماً، “أنا حامل في الشهر الثامن، أعيش في هذه الغرفة المتصدِّعة، لا نأمن على حياتنا أنا وزوجي، في كل يوم نستيقظ وعلى التخت قطعاً إسمنتية سقطت من السقف، وهذا يجعلني أخاف على ابنتي التي ستولَد قريباً”. وتضيف “ليس لدينا اشتراك، نستعين بساعة كهرباء الدولة لتشريج البطارية والهاتف، وأُلازِم المنزل إلى حين انتهاء االشحن، ثم إمّا أخرج إلى سطحة صغيرة موجودة بين البيوت، أو أذهب إلى بيت أهلي لتمضية بقية النهار”.
الهيئة العليا للإغاثة تتدخّل بإمكانيات محدودة
في أعقاب انهيار المبنى، طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من الهيئة العليا للإغاثة تقديم المساعدة. يؤكّد الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير لـ “المفكّرة القانونية” أنّ الهيئة أمّنتْ إيواء العوائل لمدة يومَيْن في فندق، قبل تقديم بدل إيواء لتِسعِ عائلات كانت تقطن المبنى المنهار والمبنى الملاصق، إذ حصلت كل واحدة على “خمسة ملايين ليرة لبنانية ليقطنوا حيث يرغبون”. كما يشير إلى أنّ “الهيئة تعمل بإمكانيات مالية محدودة”، وهي تتواصل مع الجهات المانحة والمنظمات الإغاثية من أجل تقديم مساعدات عينية غذائية ومفروشات للعائلات المتضرِّرة.
يلفت اللواء خير إلى أنّ “المساعدات شملت كافة العائلات دونما بحث في جنسية القاطن في المبنى”. ويوضح أنّ الهيئة تلتزم وفق صلاحياتها القانونية بمساعدة المتضرِّرين من الحوادث، و”دور الهيئة يقتصر على مساعدة المتضرِّرين المباشِرين من الكوارث، لكنّ الحل الشامل لمشكلة باقي المباني المتصدِّعة يقع على عاتق السلطة المحلية (البلدية) التي يفرض عليها القانون الكشف على المباني في نطاقها بصورة دورية، وكذلك السلطات الحكومية المختصة”.
يأسف اللواء الخير لسقوط طفلة ضحية للانهيار، مؤكِّداً أنّ “كتاباً سيُرفَع إلى الحكومة لتقديم مساعدة إضافية خاصة بعائلة الطفلة جمانة، وذلك يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء”.
من جهة أخرى، يشير مختار القبة عبد الحميد البقار إلى أنّ الجهود أثمرت إيواء تسع عائلات في مدرسة الأمل الواقعة في ضهر المغر، متحدِّثاً عن جهود تكافلية بين أبناء المنطقة من أجل مساعدة الأهالي بصورة مؤقَّتة. كما أنّ العمل بدأ لإعادة وصل المنطقة بالخدمات العمومية من كهرباء، وماء، واتصالات.
المصدر : بشير مصطفى – المفكرة القانونية.