حسن الرفاعي: نداء لموقف وطني حاسم من الأداء الانقلابي للعهد على الدستور!
المرجع الدستوري والقانوني النائب السابق حسن الرفاعي يعد مطالعة تجيز محاكمة العماد عون بتهمة الخيانة العظمى تبعاً لافعاله المرتكبة
أمام العبث المجنون بنظام لبنان بفعل خروج رئيس البلاد ميشال عون عن دور الحكم العادل والحكيم الجامع لصالح شخصيّة المحارب لاستعادة “حقوقٍ مسيحيّةٍ سليبةٍ” والمنضوي في “حلف الممانعة” أرى أنّ لبنان أصبح بخطر أكيد وأنّ اللّبنانيّين ذاهبون نحو مزيد من الهجرة والاغتراب والتحسّر على حلمٍ جميل ضاع !
ولئلّا يبقى كلامي في خانة العموميّات أوضِح للبنانيّين الآتي
طبيعة النّظام اللّبناني وحقيقة الصلاحيّات الرّئاسيّة:
منذ دخولي الندوة النيابيّة سنة 1968 ترسخت قناعتي:
أنّ نظامنا كان ومازال جمهوريًّا ديمقراطيًّا برلمانيًّا وأنّ لبنان لا يمكن أنْ يبقى بلا هذا النّظام بسبب حرماننا الأحزاب السياسيّة وبسبب النّظام الطائفي، علمًا أن لا طائفيّة في لبنان بل مصالح.
أنّ رئاسة الجمهوريّة في لبنان يجب أن تعود لمارونيّ يُطَمئن المسيحيين ويَجمَع بشخصيته وحِكمَتِه وعدله كلّ بقيّة الطوائف حول فكرة لبنان.
إنّه الرّئيس القويّ بمحبّة مواطنيه، المسلم منهم قبل المسيحيّ.
مُضَلّلٌ كلّ منْ يعتبر أنّ رئيس الجمهوريّة كان منذ الاستقلال رئيسًا يمتلك صلاحيّات فوق العادة يضمنها له “النّظام الرّئاسي” وحرفيّة المادّتين 17 و53 من دستور ما قبل الطائف اللّتين نصّتا:
“تناط السلطة الاجرائيّة برئيس الجمهوريّة وهو يتولّاها بمعاونة الوزراء…”
“رئيس الجمهوريّة يعيّن الوزراء ويسمي منهم رئيسًا ويقيلهم … ويولي الموظفين مناصب الدّولة …”
في حين أنّ نظامنا منذ وضِعَ أيام الانتداب الفرنسي مستوحى في قسمٍ كبير منه من دستور الجمهوريّة الثالثة الفرنسيّة (1875 – 1940) القائم على النّظام الجمهوري البرلماني بسبب اقتران النص بأعراف برلمانيّة غاية في الدّيمقراطيّة.
ومن الأمثلة على هذه الأعراف في لبنان منذ سنة 1943، إجراء رئيس الجمهوريّة استشارات نيابيّة قبل تسمية رئيس الحكومة ( استشارات لم يلحظها نص من الدّستور) وقيام الرّئيس المكلّف باستشارات نيابيّة، لا يحضرها رئيس الجمهوريّة، من أجل تشكيل حكومته بخلاف المادّة 53 الّتي يقول نصها الحرفي أنّ رئيس الجمهوريّة هو مَنْ يعيّن الوزراء ويسمي منهم رئيسًا.
ومن هذه الأعراف أيضًا ضرورة أن يقترن مرسوم تعيين وإقالة الوزراء بتوقيع رئيس الحكومة بخلاف نصّ المادّة 54 من الدّستور (الّتي تلحظ توقيع رئيس الجمهوريّة منفردًا) لأنّ كلّ قرارات رئيس الجمهوريّة، غير المسؤول سياسيًّا في النّظام البرلماني، تحتاج إلى توقيع شخص مسؤول هو رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصون، ولأنّ كلّ أفعال هؤلاء تخضع لمراقبة ومساءلة ومحاسبة السلطة التشريعيّة، في حين أنّ لا تبعة على رئيس الجمهوريّة حال قيامه بوظيفته إلّا عند خرقه الدّستور أو في حال الخيانة العظمى (المادّة 60 من الدّستور)
فرياض الصلح أوّل رئيس حكومة زمن الاستقلال سنة 1943 ضمّن البيان الوزاري الشهير لحكومته العبارة الآتية: “هذا هو عنوان الحكومة الّتي كان لي شرف تأليفها ورئاستها …”
وقتها لم يعترض الرّئيس بشارة الخوري أو أيّ سياسيّ أو حقوقيّ على كلام رياض الصلح الّذي أعلن دون أيّ التباس أنّه هو مَنْ شكّل الحكومة وهو الّذي يرأسها. هكذا جسّد الصلح التزامه بأصول النّظام الجمهوري البرلماني دون أن يعني ذلك على الإطلاق أنّه ورؤساء الحكومات المتتالين لم يتشاوروا مع رؤساء الجمهوريّة في عمليّة التأليف أو أنّهم لم يسايروهم في عمليّة توزير بعض الأسماء صاحبة الكفاية أو بعض المقرّبين لرؤساء الجمهوريّة. هذا ولم يسبق أن اندلعت حرب صلاحيّات ضروس بين رئيس جمهوريّةٍ غير مسؤولٍ ورئيس حكومةٍ مسؤولٍ حول عمليّة وآليات تشكيل الحكومة كما هو حاصل مع الرّئيس عون.
ولكن مع الوقت، وبحكم ركون رئيس الجمهوريّة إلى طواعيّة مجلس نيابي فيه 6 نواب مسيحيين مقابل كلّ 5 نواب مسلمين، وبحكم احتكار كلّ وظائف الفئة الأولى المؤثرة بيد المسيحيين والموارنة تحديدًا، وبحكم اعتماد أكثر من رئيس جمهوريّة على دعم وولاء الجيش ومخابراته، وبحكم تراخي وتساهل بعض رؤساء الحكومات الّذين كانوا يعيشون تحت سيف اسقاطهم واستبدالهم أو طَمَعِهم بالسلطة وصلنا إلى زمن أصبح فيه رئيس الحكومة برتبة “باش كاتب”. لذلك، طَرَحتُ منذ سنة 1974 أن تكون استشارات التكليف مُلزمة في إجرائها وفي نتيجتها وناقشتُ الموضوع مع الراحلين صائب سلام ورشيد كرامي. وقد لخصتُ على شاشة تلفزيون لبنان بتاريخ 17 تشرين الأوّل 1988 (أي قُبَيلَ اجتماع الطائف) أسباب الخلل الّذي وصلنا إليه فقلتُ:
” لا صلاحيّة لمن هو غير مسؤول …” (أيّ رئيس الجمهوريّة)
” منذ سنة 1943 بدأت تزداد صلاحيّات رئيس الجمهوريّة (بالممارسة الشاذة) على حساب بقية المسؤولين، فأصبح كديكتاتور، لذلك بدأت المناداة بالمشاركة. كيف يمكن لرؤساء الوزراء المسلمين المطالبة بمشاركة من هو غير مسؤول وبالتالي لا صلاحيّة له؟ إنّ الصلاحيّات في يدّ الوزراء مجتمعين في مجلس الوزراء.” (نعم الصلاحيّات كانت في يد الوزراء مجتمعين منذ سنة 1943 وليس بسبب تعديلات الطائف)
” استرضى رؤساء الحكومات رؤساء الجمهوريّة الذين مارسوا صلاحيات ليست لهم، لم يربح رؤساء الجمهوريّة بذلك، بل خسر لبنان ومن تنازل خسر وخسر لبنان معه.”
” أكرّر اقتراحي بتعديل الدّستور لإدخال كلّ الأعراف (البرلمانيّة) إليه.” (كي ننتهي من مزاجيّة رؤساء الجمهوريّة في تطبيق الأعراف والالتزام بها)
دعوة للزّود عن الوطن وحماية مرتكزاته:
إنّ استعادتي هذه الملاحظات مردّه الأداء الانقلابي عند الرّئيس عون وفريقه وازدياد قلقي على لبنان وعلى مستقبله في زمن إعادة رسم جغرافيا المنطقة وتقاسمها مساحات نفوذ وازدياد الكلام عن مؤتمر تأسيسي أو عقدٍ اجتماعيٍّ جديد وفدرلة وما شابه من طروحات، لذلك:
أدعو رؤساء الحكومات السابقين إلى تبني قراءة دستوريّة موحدة عن دور وصلاحيّات رئيس الحكومة وعن آليّات تسميته وتشكيله للحكومة بهدف إيقاف مهزلة تطفيش واستبدال الرّئيس المكلّف حسب أهواء رئيس الجمهوريّة، والكفّ عن إضاعة الوقت بين رئيس مكلّف يساير مبادرة فرنسيّة تائهة وآخر يدوّر الزوايا ويتفنن في تصاريح شبه يوميّة حول زياراته المذلّة واجتماعاته مع رئيس الجمهوريّة ومستشارين ووسطاء، في حين أنّ رئيس الجمهوريّة لا يضيّع مناسبة إلّا ويتوسّع أكثر وأكثر بالحديث عن صلاحيّات لم تكن له يومًا على الإطلاق…
فتأليف الحكومة واختيار الأسماء وتوزيع الحقائب كلّها أمورٌ من صلاحيّة ومسؤوليّة الرّئيس المكلّف أمّا دور رئيس الجمهوريّة فلا يتيح له حقّ وصلاحيّة التدخّل في تفاصيل التأليف لأن الحكومة تحيا بثقة المجلس وليس برضى رئيس الجمهوريّة عنها، ولا تتوقف ولادتها على امتلاك الرّئيس ثلثًا معطلًا أو حصّة وزرايّة …
إنّ القراءة الدّستوريّة الموحدة الّتي أدعو لها لا تهدف إلى التمسّك بحقوقٍ للطائفة السنيّة بل إلى التمسّك بدستورنا وبالنّظام الجمهوري البرلماني الّذي أعتَبِرُه الأكثر ملاءمة للبنان وبقاءه.
كما أعجب من السياسيين المسيحيين والموارنة على وجه الخصوص كيف لا يحدّدون موقفًا صريحًا من تمادي رئيس الجمهوريّة في مخالفة الدّستور وفي رفع شعار الدّفاع عن حقوق المسيحيين وفي معركته لاستعادة صلاحيّات مزعومة، وأسألهم: هل مشاركة رئيس الجمهوريّة في توقيع مراسيم الحكومة تجعله شريكًا في التأليف وفي انتقاء الأسماء والحقائب وتوزيعها نيابة عن النواب المسيحيين؟ هل من حقّه تعطيل مبدأ إلزاميّة الاستشارات عبر تعجيز الرّئيس المكلّف وإضاعة الوقت عبر مناورات وأساليب مُذلّة للرئيس المكلّف؟ ثم، لو وصل أحدكم إلى رئاسة الجمهوريّة هل سيتدخل بتشكيل الحكومات بحجّة أنّه المرجع المسيحي الّذي يحمي حقوق الطائفة في الحكومة؟
إنّ استمرار غالبيّة السياسيين الموارنة بالاكتفاء بموقف المتفرّج على تجاوزات الرئيس عون للدّستور لا يخدم الوطن ولا رئاسة الجمهوريّة ولا الطائفة المارونيّة بل يحرّك العصبيّات ويغلّب الكراهيّة بين أهل الوطن الواحد.
أستغرب أيضًا تغاضي النّواب ورئيس المجلس عن تطاول رئيس الجمهوريّة المتمادي على أسس النّظام البرلماني وضربه الدّستور في مرتكزاته الأساسيّة، فالمادة 60 من الدّستور تعطيهم دون سواهم الحقّ بملاحقة رئيس الجمهوريّة بجرم خرق الدّستور والخيانة العظمى …! والخرق الأوّل والأهم هو زجّ لبنان في محور الممانعة وتسليمه ساحة لسياسات إيران. فَفَقْرُ وعَوَزُ اللّبنانيين وانفجار المرفأ ليست إلّا من نتائج هذا التّخلي الرّئاسي عن السيادة الوطنيّة وعن حفظ استقلال الوطن وسلامة أراضيه كما ينص قَسَم رئيس الجمهوريّة الّذي تلحظه المادّة 50 من الدّستور.
الخلاصة
إنّ غياب موقف وطني واضح من تطاولات رئيس الجمهوريّة وفريقه على النّظام والدّستور ورئاسة الحكومة يعيدنا إلى أجواء تشنّج ما قبل 1975 ويفتح الباب واسعًا أمام المزايدات الطائفيّة الشعبويّة من كلّ حدبٍ وصوب مما يقود إلى مزيد من تشظّي الوطن وهجرة أبنائه وربما يفرض مؤتمرًا تأسيسيًّا. هكذا يَفْرَغُ لبنان من مَعْنَاه ومن أهله.
مرّة أخرى، ليست المشكلة بالدّستور وبالنّظام بل بالرجال وبعقليّة التسلّط والأنانيّة عندهم وبغياب الحسّ الوطني كما سبق وكتبت في العدد الخاص من النهار الصادر بتاريخ 27 أيلول 2018.
أدعو لتشكيل جبهة عريضة من النّواب تتخذ الإجراءات الدّستوريّة لمحاكمة الرّئيس ميشال عون عن إسهامه الفظيع في خيانة فكرة لبنان وضرب مرتكزاته، وقد شاركت مؤخرًا في وضع دراسة في هذا المعنى.
إنّ السلطة واجبات ومسؤوليّات وما الصلاحيّات إلّا لتأدية هذه الواجبات..