الأجور لا تكفي المواصلات… الدولار يزيد هموم اللبنانيين
نصبت الأزمة في لبنان الدولار “سيداً” على حياة الناس، وبات سعر الصرف العنصر الموجه لسلوكياتهم اليومية ونمط استهلاكهم. أصبحنا أمام تصنيف ذائع للمواطنين والشرائح الاجتماعية، بين من يحصل على دخل بالدولار لقاء عمله في القطاع الخاص أو حوالة من مغترب، ومن يعيش فعلاً “متلازمة الدولار”.
وبين هذا وذاك، بدأ التجار مرحلة التسعير الشامل بالدولار، ومبرر ذلك حماية أنفسهم من تقلب سعر الصرف، الذي وصل إلى حدود 30 في المئة خلال يوم واحد، ولتجنب الشجارات المتكررة مع المستهلكين، الذين يصدمون نتيجة التفاوت الكبير بين يوم وآخر، والتغيير الدائم للأسعار.
صور من المعاناة
تضيق السطور في نقل صور معاناة اللبنانيين، وتحديداً أولئك الذين لا حول ولا قوة لهم أمام ارتفاع سعر الدولار، ممن يشكلون أكثرية بين المواطنين الفقراء. زيارة ميدانية على عينة من الدكاكين التي تقدم مؤشراً على السلوك الاستهلاكي للعامة، تكشف حجم تأثير الأزمة على اللبنانيين، وأن “لقمة العيش باتت مهددة بالفعل”.
في أحد الدكاكين، يدخل مواطن اضطر لإلغاء الاشتراك من منزله بسبب الارتفاع الصاروخي للفاتورة، التي سعرها أصحاب المولدات بالدولار، يستدين الرجل من صاحب الدكان شمعتين اثنتين، ويطلب تسجيل مبلغ الـ16 ألف ليرة على دفتر المدينين، ما هي إلا لحظات يطلب آخر كيلو برغل، يعلم أن ثمنه يساوي 30 ألف ليرة، يتأكد من نقوده فلا يجد إلا بضعة آلاف إضافية معه، فيطلب قبضة من البائع.
بدوره، يؤكد صاحب الدكان أن هذا المشهد لم يعد استثناءً، وبدأ يتعمم في الآونة الأخيرة، لأن “الناس انتقلت إلى مرحلة سد الرمق بما توافر لديها، لأنهم يعيشون كل يوم بيومه”.
هذه المشاهد تتكرر أمام المخبز، حيث يشكو أحد المواطنين من أن “الربطة صارت أغلى، لكن عدد الأرغفة والوزن أصبح أقل، فهي لا تكفي لإشباع شخص واحد”، فما هي حال العائلات الكبيرة؟ كما أنه لا يمكن إغفال التغيير الطارئ على العلاقة باللحوم والزيوت والخضراوات، فزيارة محلات اللحوم أصبحت ظرفية، والخضراوات أصبحت بالحبة، وهذه أمور تؤكد فرض الأزمة روتينها على اللبنانيين.
لا تتوقف الشكوى عند المواطن اللبناني المياوم، وإنما تدق أبواب موظفي القطاع العام، حيث أصبحت أجورهم لا تكفي لتأمين بدل النقل إلى مراكز عملهم، حيث يتندر أحدهم بأن “أجر الموظف يساوي جرة غاز، وتنكة بنزين”، بالتالي فإن الشعور بالأمان والاستقرار صار ماضياً بالنسبة لهؤلاء.
الملاذ الآمن للتجار
أمام التقلب الدائم لسعر صرف الدولار، حاول التجار والصناعيون استدراك الخسائر من خلال الانتقال إلى التسعير التام بالدولار. ويبرر أحدهم أنه “خسر مليون ليرة خلال محاولة استرداد 200 دولار ثمن فاتورة واحدة بسبب تقلب الدولار، عندما باع على دولار 27 ألفاً، وقصد الصراف في آخر النهار فوجد الدولار على عتبة 32 ألف ليرة”، لذلك لم يجد هؤلاء من حرج في فرض التعامل بالدولار، بما يؤشر إلى بلوغ مرحلة الدولرة الشاملة، التي بدأت معالمها برفع الدعم عن السلع الأساسية، وعدم القدرة على توحيد سعر الصرف، والتسعير الرسمي بالدولار لبعض السلع كالمازوت.
يستدرك أحد التجار أنه في غياب اعتماد سعر واحد للدولار، سيبقى هؤلاء عرضة للخسارة، لأنهم في لحظات الارتفاع المفاجئ يخسرون الملايين، لأن أكثرية المواطنين يصرون على الدفع باللبناني، ولكن يبقى الدولار أكثر أماناً عند “إعادة تكوين الغلة”.
الدولرة قد تكون حتمية
ليست الدولرة بالأمر الطارئ على حياة اللبنانيين، ويؤكد الباحث الاقتصادي أيمن عمر، “أننا أمام ظاهرة قديمة منذ الحرب الأهلية وانهيار الليرة اللبنانية، حتى وصلت ما قبل الأزمة في العام 2018 إلى 70 في المئة من حجم المعاملات. وقد فرض الانهيار الاقتصادي اللجوء الكامل إلى الدولرة بسبب فقدان الثقة بالليرة اللبنانية وبالاقتصاد اللبناني، والأهم من هذا كله فقدان الثقة بالسلطات المسؤولة وقدرتها على تقديم الحلول للجم الانهيار والحد من التفلت النقدي”.
بلغة اقتصادية، يميز عمر “بين جانب الإنفاق والاستهلاك وجانب المداخيل والإيرادات، ففي جانب تسعير جميع السلع والخدمات أصبحنا أمام دولرة كاملة 100 في المئة، بالتالي عمليات الإنفاق والاستهلاك تتحدد وفق سعر صرف الدولار مقابل الليرة، لأننا نعتمد على الاستيراد بشكل شبه كامل، وهذا ما أثر على مستوى معيشة الناس ودرجة الحصول على متطلبات حياتهم اليومية وفي مقدمتها الخبز والمحروقات. أما من جانب المداخيل والإيرادات فقد حول جميع التجار وأصحاب المهن الحرة والحرفيين والمؤسسات والشركات أسعار السلع والخدمات التي يقدمونها على أساس الدولار، حتى إن أغلب موظفي القطاع الخاص قد تم تصحيح أجورهم بنسبة معينة وفق سعر صرف دولار معين”.
ويشير إلى أن “الفئة الوحيدة التي تلظت بشكل كامل بهذا الانهيار النقدي هم موظفو القطاع العام بكل تسمياتهم والقطاعات العسكرية، حيث انخفضت قدرة مداخيلهم الشرائية بنسبة تجاوزت الـ95 في المئة، لأن عملية تصحيح الأجور وفق تغيرات الأسعار وسعر الصرف لم تطاولها”، بالتالي يعتبر عمر أن ما يصفها بـ”ترقيعات المساعدات الاجتماعية الطارئة” غير ذات جدوى، محذراً من “خطر التفكك الاجتماعي لما تمثله هذه الفئات من طبقة وسطى وصمام الأمان الاجتماعي”.
ويأسف عمر لأنه “لا علاجات جذرية على المدى القصير لكبح جماح الدولار”، معللاً ذلك بأن “قوة أي عملة دولة مرتبط بالدرجة الأولى بالثقة في الدولة ومؤسساتها ورجالات الحكم فيها، إضافة إلى قوة اقتصادها وماليتها العامة، جميعها عناصر أصبحت مفقودة في الحالة اللبنانية المتأزمة. فكيف بدولة مثل لبنان ارتبط اقتصادها وعملتها تاريخياً بالمال السياسي الخارجي وبالتحويلات من الخارج والقروض والمساعدات من الدول والمنظمات الدولية، ونحن نعاني اليوم من صراعات لعبة الأمم في أرضنا؟”.
ويعتقد أن “ما نشهده من فجوات كبيرة في تقلبات سعر الصرف صعوداً أو هبوطاً ناجم عن متغيرات غير اقتصادية وغير علمية، فقد سقطت جميع المحددات العلمية الاقتصادية لسعر الصرف في مستنفع الحالة اللبنانية القذرة”.
يتوقع عمر عدم استقرار سعر الصرف بالأمد المنظور مع غياب الاستقرار السياسي، “سنظل نعيش في دوامة من التأرجحات المتقلبة لسعر الصرف مربوطاً بخبر سياسي من هنا، أو حدث أمني من هناك، أو استحقاق ما، أو تعاميم مصرفية مخدرة، أو مضاربات لتجار الدم ومصائر الناس، أو أي عنصر يستطيع التأثير على اللاوعي النفسي عند المواطنين وتحريك مكمن الهلع في نفوسهم لغياب عناصر الاستقرار السياسي والاقتصادي، حتى تأتي التسويات الكبرى”.
ينعكس الحرمان وصعوبة تأمين السلع الأساسية مباشرة على اللبناني على مختلف المستويات، وتحديداً الناحية النفسية والاجتماعية. ويلاحظ الباحث الاجتماعي سامر أنوس، أن “كل أزمة اقتصادية تترافق مع آثار اجتماعية ونفسية”، مشبهاً ما يجري اليوم بما حدث في اليونان بعد انهيار القطاع المصرفي، وعجز المواطنين عن الحصول على ودائعهم، لذلك يعيش المواطن حالة من عدم الاستقرار، وعدم قدرة الحصول على الحاجات الأساسية كالغذاء والدواء، حيث يعجز أصحاب الأمراض المزمنة عن تأمين العلاج المستدام، وهو ما يرتب ضرراً نفسياً على المريض والمحيط.
وقال أنوس “تتفاوت المعاناة بين الطبقات الاجتماعية، من ناحية هناك شرائح تستمر بنمط حياتها التقليدي بفعل استفادتها من النظام القائم، لا بل إن بعضهم زادت ثروته بفعل ممارسة الاحتكار، حيث نجدهم يعيشون حياة باذخة لناحية السياحة، والإنفاق في مقابل شريحة أخرى هم عامة الناس”.
يتخوف الباحث الاجتماعي من تأثر الروابط العائلية ببعض الضرر، أمام عجز الأهل عن تأمين المتطلبات الأساسية لأطفالهم، ناهيك عن ازدياد منسوب الخوف من المستقبل الذي “يعتبر مجهولاً مع ما يرافقه من قلق توقعات سلبية”. ويؤدي هذا الأمر إلى تراجع الشعور بالسعادة عند الأفراد وضمن الجماعة، لافتاً إلى ظاهرة انتشار العنف ضمن الأحياء وأماكن العمل التي أصبحت الأجور في كثير من الأحيان غير كافية لتأمين نفقة المواصلات.
المصدر : اندبندنت عربية.