راجح الخوري صرخ “يا عدرا” وانتصر !
هو من العارفين أن الحياة الحقيقية موجودة في مكان آخر، ومن القائلين: إن أكبر حظ يمكن أن يصيب الإنسان هو أن يموت في الوقت المناسب، قبل أن يرى الشفقة في عيون الآخرين.
كأنه كان عارفا باقترابِ أوان موته، فصلّى وتضرّع وصرخ مراراً قبل أن يتسلل إليه هذا الموت ويعانقه ويغادر به: يااااا رب. هو شجاعٌ لكن شيئين لا يستطيع الإنسان، مطلق إنسان، التحديق بهما وهما: الشمس والموت. لم يباغت الموت إذاً راجح الخوري بل باغتنا نحن. هو أراد ذلك ونجح في ذلك. هو لم يرد أن نراه ضعيفاً، واهناً، خائراً، عاجزاً، سقيماً ومهزوماً، فأكثر من صلواته وهو يدنو، رويداً رويداً، من حافة الموت. إستمرّ يكتب ويصلّي. والكتابة، قد تتحوّل في أوقاتٍ كثيرة، الى صلاة.
نقلب بين آخر تضرعاته فنقرأ: «يا ربّ لا تعذبني في نهاية عمري برؤية الشفقة في العيون، ولا تجعلني عالة أو سبب تعب مَن حولي، واقبضني إليك في كامل قوتي ووعيي وأنت راض عني». تحقق له ما أراد وغادر بهدوء تاركاً في الأذهان صورته وهو بكامل أناقته وحضوره ورجاحة عقله. راجح الخوري وضع قلمه جانباً. أغمض عينيه. ونام نوماً أبدياً. كان مريضاً. ما عاد يهم ماذا كان مرضه، سواء أكان ذاك الخبيث أم سواه، فهو لم يرد أن يبوح به في العلن ويسمع من يُردد عنه: يا حرام. ولا أن يسمع من يشمتون ويقولون: بيستاهل. نعم، هناك من يحلو لهم دائما الجلوس عند حفافي آلام الناس والتلذذ برؤيتهم يتهاوون. هم خسئوا، خسروا، وراجح إنتصر. صديق صدوق هو. محبوه كثيرون. والأوصاف التي أغدقت عليه من معارف وأصدقاء وزملاء جميلة جميلة: الآدمي، الأنيق، المربي، الصديق، الأستاذ، الأرز والسنديان، المناضل، القلم، الحرّ، راجح البشير، الأب، الزوج، الجدّ… هو جدّ حنون، يتباهى بأحفاده، ويمضي معهم أحلى الأوقات. يلعبون التنس معا. يتدللون عليه فيحتضنهم مردداً: يا عمري. وولداه نادين وروي وزوجته أمال الحضن والسند في زحمة مشقات العمر والمهنة. صحافيون كثيرون تتلمذوا على يديه، أصبحوا اليوم كباراً، لكنه استمرّ بالنسبة إليهم الاستاذ الذي يغدق عليهم، بأسلوبه، بنصائحه الثمينة، وهم يتقبلونها برحابة صدر. والبارحة، في 27 أيار، نزل خبر رحيله عليهم، كما على سواهم، كما الصاعقة والجبل والصخر. فالأستاذ مات. الأستاذ راجح أدار ظهره ومشى، وهو العالم ماذا سيفعل الناس في عزائه: سيشربون القهوة ويتحدثون عن غلاء الأسعار و»صندوق النقد والعصابة اللبنانية» وسيسألون عن عنوان آخر مقالاته: «ومتى يبدأ تعليق المشانق للذين أفلسوا الدولة؟».
البارحة، عند الساعة الثالثة، شُيّع في كنيسة الصعود الإلهي للروم الأرثوذكس في كفرحباب. سياسيون كثيرون نعوه وحكوا عن جرأته. نقابة المحررين فعلت هي ايضا ذلك وقالت: «سيبقى حيا». نتمنى طبعاً ذلك. إحداهنّ قالت: حين شعر بالأزمة تشتدّ عليه، وبينما يضعونه في سيارة الصليب الأحمر، طلب من زوجته إرسال المقال الذي بين يديه بعدما وضع عليه آخر نقطة. كان صحافياً حقيقياً، يعرف كيف ينتقي كلماته بلا «تجميل» لكن بتهذيب. كان يلتزم بمواعيد تسليم المادة على نقيض صويحفيين جددٍ. كان يعرف ان الصحافة حريّة، وهو الحرّ دائما، وأننا «إذا سلبنا حرية التعبير عن الرأي فسنصبح مثل الدابة البكماء التي تقاد الى المسلخ». كان شغوفا بمهنة إختارها واختارته. جميلٌ كل ما كُتب عن راجح الخوري، الصحافي والكاتب، الذي يعرف كيف يضع النقاط على حروف المعاني. لكن، ما لم ينتبه إليه كثيرون، هو كثرة تضرعاته في الشهر الأخير. نقلب في صفحاته على مواقع التواصل الإجتماعي فنجد صور القديس شربل وسانت ريتا، قديسة الأمور المستحيلة ومقولة تتردد بصيَغ مختلفة: «إن آمنتم بالرب ما من شيء مستحيل».
هناك تضرع آخر يخرج من قلب قلب قلبه: يا ربّ هوّن علينا قسوة الحياة، إسترنا بسترك، وفك ضيقة كل من يمر بضيقة. يا عدرا». أيار هو شهر السيدة العذراء وهو رحل مع تفتح ورود الياسمين والغاردينيا في هذا الشهر المبارك وهو ينادي: يا عدرا. الموت حقّ. لكن، لو كان بيد راجح الإختيار لفضّل ربما، وهو الشجاع دائما، الصمود بعد. وهذا ما تمناه كثيرون أيضا «فلبنان في دركٍ اسود حالك ويحتاج الى كل صوت وقلم ورأي سيادي حرّ». هو ارتاح. نعرف ذلك. لكن من يعرفه يُخبر أنه كان يتمنى أن يصمد بعد ولو قليلا: «على عكس كل ما قيل أنه فضّل أن يوضّب عمره ويغادر الى دنيا الحق قبل أن يشهد إرتطام لبنان الكبير». نقرأ في آخر ما كتب: «لبنان أتعس الدول وعون يراه بخير» و «طرابلس وتايتانيك لبنان» و»دولة النصب والشعب الضحية» و «مبروك… عبيت بنزين» و «لبنان ليس منصة صواريخ إيرانية» و»الماعز في قصر العدل» و «متى تستيقظون أيها القتلى» و»حوار الطرشان في لبنان» و»صندوق النقد والعصابة اللبنانية» و»المخربون لا يصنعون خطة للتعافي»… وكتب أيضا عن بايدن والعرب ومالي واوكرانيا والقيصر وهتلر والقرم وايران وإتفاقات «تحت الطاولة» وفوقها ووجع الناس… راجح الخوري عرف كيف يُسخّر قلمه لخدمة الناس، فراح يكتب ما يفكرون وما يريدون وما يتمنون. وأصدق الكتابات هي التي تعكس إرادة الناس.
الى الكتابة أحب الشعر والرسم. هو فنان الكلمة الذي عرف دائما كيف يسبح في كتاباته ما بعد الحدود ليستنتج ما يحدث وما قد يحدث داخلها. راجح الخوري، إبن بلدة الكفير الجنوبية، كان يلتفت، مثل الرادار، في كل الإتجاهات، خصوصا نحو البقع الاكثر وجعا ومرارة. هو كتب شعراً عن التبانة عنونه: درب التبانة أعرف أنك هناك، تتحاشي السقوط في الثقب الأسود». ويوم أحرق جورج زريق نفسه في ملعب مدرسة ولديه كتب: «يا جورج زريق يا شهيد الابوة السماوية النبيلة يا شاهدا أبديا على عارنا الكبير يا حريقاً يضطرم في قلوبنا الى الأبد يا نارا تستعر لتحرق وجداننا». وفي مكان آخر كتب «يا جورج زريق سددت قسط ولديك موتاً، وحرقت حياء الوطن، جعلت الوطن رماداً». كان راجح الخوري يتألم بصدقٍ لآلام الآخرين لهذا إقتحمت كتاباته قلوب العامة أولاً. كتب في النهار والشرق الأوسط وفي العمل والحوادث وفي نداء الوطن قديماً… وهناك من قال عنه: مات يوم مات البشير. وهناك من تحدث عن علاقته ببلدته الكفير، بزيتون الكفير وصنوبرها، التي عاد الى سكونها بعد كثير من «الأقدار» التي عاشها على مرّ عمره. هو، بنظرنا، إرتاح من الفساد والفاسدين وعلل لبنان الكثيرة. إرتاح هو اما نحن فلا. هو عاد ليرقد في كنف أخضر الزيتون لا يباس الوطن.
أحبّ أيضا بلدة القليعات الكسروانية. جعلها بلدة إصطيافه، وكان ينوي تمضية هذا الصيف فيها لكن الموت أخذه، كما أحبّ وهو أنيق وراجح العقل، مشرعاً له باب السماء. نقلب بين كتاباته الكثيرة، بين حروفه الرشيقة غير النمطية التي لا ممالقة فيها. إنكسر القلم بغيابه. إنكسر الطيبون. وانتصر هو. هنيئا للسماء بك راجح الخوري.