“الإنفلاش الانهياري” أحدث “صيحات” الأزمة
ختام الجلسات الحكومية لن يكون “مسكاً” بل علقماً. فالسلطة التنفيذية التي “جمّدت” كل الاستحقاقات لعجزها من جهة وتهربها من نقمة الشارع قبل الانتخابات النيابية من جهة ثانية، عادت لـ”تسيّلها” دفعة واحدة وترميها على البرلمان قبل الدخول الطويل في تصريف الاعمال. فأعدت لجلسة أخيرة مؤلفة من 133 بنداً، تتضمن بالاضافة إلى المحاصصة، إقرار خطة التعافي وفتح اعتمادات ونقل أخرى بآلاف المليارات من الليرات، ومئات الملايين من الدولارات.
أول البنود التي ستعرض هو استراتيجية النهوض بالقطاع المالي، ومذكرة بشأن السياسات الاقتصادية والمالية.
أو ما يعني “خطة التعافي الاقتصادية” التي ما زالت تراوح مكانها في الخانة (الصفر) لجهة العدالة في توزيع الخسائر البالغة أكثر من 73 مليار دولار، ليلحقها طلبات للموافقة على مساهمات مالية بالليرة والدولار.
جزء منها حددت قيمته: كطلب وزارة الصحة سداد 140 مليون دولار لاستيراد الأدوية على 4 أشهر، وطلب الداخلية تسديد 3.5 مليارات ليرة لـ الشركة الجديدة للتجارة والتعهدات، وطلب المالية 10 ملايين دولار لتمويل استمرار العمل في إدارة المعلوماتية لديها.
فيما البعض الآخر لم يحدد قيمة المساهمة المالية المطلوبة، مثل طلب: “الاقتصاد” مساهمة مالية لدفع أجور العاملين في أهراءات القمح ودعم زراعة القمح والشعير، وطلب “الأشغال” تأمين الأموال لتحديث الأنظمة الحساسة في المطار.
العودة إلى السلفات أما الصدمة فتمثلت بطلبات السلفات. فعلى الرغم من العجز الهائل في حسابي الموازنة والخزينة، لم تتوان الوزارات عن طلب سلفات وقد أتت على الشكل التالي: - سلفتا خزينة لأوجيرو، واحدة للمحروقات لم تحدد قيمتها وأخرى بقيمة 350 مليار ليرة لصيانة الشبكة الثابتة. - سلفة خزينة للمستشفيات الحكومية بقيمة 14 مليار ليرة. - سلفة خزينة لمجلس الانماء والاعمار بقيمة 5.1 مليارات دولار لدفع المساعدة الاجتماعية.
– سلفة خزينة للطاقة بقيمة 288 مليار ليرة لصالح مجلس الانماء والاعمار لدفع متأخرات عقود صيانة وتشغيل الصرف الصحي. - سلفة للهيئة العليا للاغاثة بقيمة 12.5 مليار ليرة. هذا بالإضافة إلى مشاريع مراسيم لنقل وفتح اعتمادات بمليارات الليرات من احتياطي الموازنة إلى حساب الوزارات والمجالس والهيئات على أساس القاعدة الاثنتي عشرية.
ذلك مع العلم أنه “لا يجوز تمديد العمل بالقاعدة الإثنتي عشرية لأكثر من شهر كانون الثاني، أو إقرار قوانين تسمى قوانين القاعدة الإثنتي عشرية، أو حتى سلفات وعقد نفقات من خارج الموازنة”، بحسب مصدر دستوري.
وعلى الرغم من أن هذه الممارسات القديمة الجديدة مخالفة للدستور، يبقى السؤال المحوري من أين ستتأمن الأموال إذا كان حسابا الموازنة والخزينة واقعين تحت عجوزات هائلة، وكل الايرادات المحققة لا تكفي لسداد الرواتب والمساعدات الاجتماعية التي لحقت بها، بقرارات استثنائية؟ التمويل بالتضخم في الشكل فإن الإنفاق الهائل بالليرة سيمول من خلال “الاستمرار في تخفيض سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار، وزيادة الضرائب والرسوم سواء أقُرّت الموازنة العامة أو لم تقر”، يقول مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية، ورئيس الهيئة الاهلية لمكافحة الفساد، أمين صالح. وهم بذلك يستكملون المخطط الذي بدأ بانهيار الليرة نهاية العام 2019”. ما يؤكد فرضية صالح لجهة زيادة الضرائب والرسوم، خصوصاً لجهة رفع الدولار الجمركي، هو إمكانية تفعيل العمل بالقانون 93/2018 الذي منح الحكومة حق التشريع في الحقل الجمركي لمدة 5 سنوات تنتهي في العام 2023، بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء.
وعليه لن تعود السلطة التنفيذية بحاجة إلى إقرار قانون موازنة 2022 لاحتساب الدولار الجمركي على سعر صيرفة، أو أي سعر آخر لزيادة الإيرادات برقم يتراوح بين 3500 و5000 مليار ليرة. صالح المتيقن من أن الزمرة الحاكمة متفقة منذ البداية على الخطوط العريضة، يعتبر أن “الدولة العميقة تعمد إلى تمويل نفقاتها عبر التضخم”. أو ما يعني عملياً: التمويل من خلال طباعة الليرات. وهو الأمر الذي لا يؤدي فقط من وجهة نظره إلى “انخفاض أكثر في سعر الصرف وارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات، إنما إلى التضخم الانكماشي الذي تسبب بتراجع النمو مقابل ارتفاع في الاسعار”. فالدولة عمدت منذ 17 تشرين الاول 2019 إلى زيادة الكتلة النقدية بالليرة وتمويل نفقاتها عبر التضخم. الامر الذي انعكس زيادة انكماش القوة الشرائية لمداخيل المواطنين، وسلب ما تبقى من قدرة شرائية للمداخيل في القطاعين العام والخاص. وبالتالي فإن المصرف المركزي والسلطة يستدرجان الناس إلى بيع ما تبقى من مدخرات بالدولار في جيوبهم وبيوتهم وتذويب ودائعهم في المصارف. الاتكال على حقوق السحب الخاصة الشق الثاني من الإنفاق بالعملة الأجنبية سيموّل حتماً من حقوق السحب الخاصة SDR. والتي سبق للحكومة استخدام ما يقرب 90 مليون دولار منها في شهر نيسان الفائت. المشكلة أن “هذه الحقوق ليست أموالهم الخاصة إنما موجودات بالعملات الأجنبية مخصصة للمنفعة العامة”، برأي صالح. وكان من الأجدى على الدولة تلقّف هذه الأموال البالغة قيمتها 1.35 مليار دولار وتوظيفها في الاستثمار، بدلاً من إنفاقها على الاستهلاك الجاري. وأقل الايمان كان إيجاد حل عملي لأزمة الكهرباء بوصفها أكبر المشاكل وأعقدها. وهو ما يخفف على المواطنين الفواتير الباهظة التي تدفع للمولدات، ويخفّض الحاجة إلى دعم الأسر الذي يموّل من طباعة النقود، التي تعود بدورها لتنعكس تضخماً وارتفاعاً في الاسعار”. الدولة العميقة هذا الإنفاق الاستهلاكي الذي يؤدي إلى تعميق الازمة الاقتصادية والمالية والنقدية، أوصل البلد إلى “الإنفلاش الإنهياري”، من وجهة نظر صالح أو ما يقصد به: تعميم الإنهيار واستمراره. و”على المواطنين الاستعداد للمواجهة”. فـ”المجلس النيابي المنتخب حديثاً غير قادر على معالجة الأزمات. والخشية من أن تعطل السلطة التشريعية سلطة التشريع”. وهذا ما يقف وراء استعداد الحكومة لفترة تصريف الاعمال الطويلة بإنفاق آلاف المليارات. فهم، أي السلطة، أيقنوا أن مجلس النواب يفتقد للأغلبية، ولا يوجد مايسترو يقود الأغلبية. وأن القوى نفسها التي حكمت البلد وأوصلته إلى الانهيار استطاعت التجديد لنفسها ولو بوجود جديدة. وبالتالي فهم على دراية كاملة أنهم عاجزون عن إنتاج أي حل في المستقبل. تراكم الأزمات وانعدام القدرة على حلها يثير المخاوف من أن تكون الإجراءات التخفيفية وقوداً لصدام عميق أكثر مما تمثل حلاً موَقتاً. وبحسب صالح فإن القوى السياسة التي شاركت في السلطة ما هي إلا “الدولة العميقة”، المتمثلة في تحالف زعماء الطوائف المتحالف مع النظام المصرفي. وهي تستكمل اليوم ما بدأته في السابق، أي: تحميل الخسائر التي تسببت بها إلى الشعب اللبناني.