تابعوا قناتنا على التلغرام
اقتصاد ومال

بين الراشي والمرتشي الأسعار حسب الدولار

“قديه عم يدفعوا للصوت؟”، “انا يلي بيدفعلي بصوّتلو”، “رح يقبضوا من هيدا ويصوتوا لهيداك”… نماذج لأحاديث لا يستحي أصحابها بها ويتداولونها كأنها شأن طبيعي من شؤون الحياة اليومية، لا خجل في الفساد في لبنان رغم كل الأصوات التي تعلو ضده فهو متغلغل في الثقافة والتكوين الوطني للشعب اللبناني. الرشوة، البخشيش، البرطيل أسماء متعددة لواقع واحد يكشف تجذر الفساد في المواطنين قبل المسؤولين، وفي الانتخابات كما في الدوائر الرسمية وفي الأعلى كما في الأسفل.

من يستمع الى أحاديث الناس من حوله في موسم الانتخابات يجد الرشوة في صلبها، لا من باب التصويب عليها او رفضها، بل لكونها ركناً أساسياً من أركان الانتخابات تماماًَ مثل المشروع الانتخابي او الحملات الانتخابية. معظم الناس يجدونها ظاهرة عادية وطبيعية لا تستدعي الاستغراب والأسوأ أن جيل الشباب قد تشرب فكرة الرشوة ودخلت في أخلاقياته ولم يعد يهاله الكلام عنها كما تعلّم في كتاب التربية في المدرسة، فهو أينما توجه والى أية دائرة رسمية حضر يكون على أتم الاستعداد لـ” يشوف خاطر الموظف” حتى تسير معاملته، منضماً بذلك الى أجيال سبقته من الراشين والمرتشين لا لسوء نية بل تماهياً مع ثقافة متأصلة تقوم على المساومة وتبادل المنافع.

د. أنطوان مسرة الباحث في علم الاجتماع السياسي يميز في دردشة مع “نداء الوطن” بين التسوية التي هي أهم اختراع للفكر البشري وتقوم على تقديم تنازلات متبادلة في إطار توازن الحقوق، وبين المساومة التي تقوم على تبادل المنافع على حساب المصلحة العامة. واللبناني اعتاد على المساومة والتلاعب على القانون والسلطة والنظام لتحقيق منفعته الخاصة. لا شك أن الدولة لا سيما بعد قيامها في العام 1943 قد وضعت قوانين جيدة لكنها لم تولّد مساراً ثقافياً لخلق مفهوم الدولة واحترام القانون فبقي المواطن محصوراً في ذهنية قبلية حيث الأطراف والطوائف والعشائر تطغى على مركزية الدولة بدل ترسيخ ذهنية الدولة في فكر المواطن ما جعله على استعداد دائم للمساومة معتمداً شعار” مشّيها بسيطة” من دون ان يدرك ما لهذا الشعار من انعكاسات على مفهوم الدولة بكل مظاهرها من أبسطها وصولاً الى السيادة والاستقلال.

أيام الاحتلال العثماني المباشر للبنان إبان الحرب العالمية الأولى ترسخ مفهوم البرطيل والمساومة في لبنان إذ كان اللبنانيون يكسبون ود الولاة والمسؤولين العثمانيين عن طريق الهدايا، ويقول الكاتب صقر ابو فخر نقلاً عن الأديب إسكندر رياشي في كتابه المزدوج “قبل وبعد ورؤساء لبنان كما عرفتهم”: “لا نكون مبالغين، ولا مختلقين، إذا قلنا إن أهالي هذه البلاد ألقوا دروساً على الأتراك في فن الرشوة والارتشاء. رأينا هؤلاء الأتراك في جبل لبنان عن كثب، يأتوننا في البداية رجالاً مستقيمين وإنسانيين، وينقلبون بعد حين إلى فاسقين وسارقين، وذلك عندما كنا نفتش عن اكتساب رضاهم بكل ما عندنا من حيل، وبكل ما عندنا من أسبابٍ وطرق للإغراء” . لكن مفهوم الهدية في تلك الأيام يراه البعض بشكل آخر، فعلى خلاف رياشي يرى نامي الخازن أحد الكبار ممن عاصر اهله تلك المرحلة أن العامة من الناس كانوا يرون الهدية واجباً عليهم لا لرشوة المسؤول بل كنوع من التبجيل تعبيراً عن رفعة مقامه وتواضع مقامهم أمامه . لكن هذا المفهوم يقول الخازن تغيّر مع وصول الفرنسيين لتصبح الهدية شكراً مهذباً على خدمة تمت تأديتها ويتحول معناها مع نشوء الدولة اللبنانية الى برطيل ومساومة “وعطيني لأعطيك ويا بخت اللي نفّع واستنفع”

على أرض الواقع تتظهر هذه المساومة على شكل بخشيش وبرطيل ورشوة في كل دوائر الدولة ومرافقها، فالموظف او المسؤول يساوم المواطن ولا يسيّر أموره او معاملته إلا إذا نال المعلوم او الإكرامية والمواطن يساوم الموظف والمسؤول و”يشوف خاطره” مؤكداً له “ان تعبه محفوظ وفوقه حبة مسك” لتسهيل معاملته و تمريرها وكلما كانت المعاملة لا قانونية يسودها الغش والتلاعب على القانون كلما ارتفع منسوب المساومة وعلت قيمة الرشاوى. واليوم صارت الرشاوى تجاري سعر الدولار وترتفع قيمتها مع كل قفزة له وصار كل راش او مرتش يحسب التسعيرة على الدولار حتى لا يكون مغبوناً.

البرطيل النسبي

في هذا الإطار يروي السيد شوقي عطية وهو أحد أصحاب المكاتب العقارية في منطقة البترون لـ”نداء الوطن” أن الدوائر العقارية مثال على معظم دوائر الدولة وإن كان كثر يعتبرونها مغارة “علي بابا” نظراً لما يتداول فيها من مبالغ كبيرة تؤمن أرضية خصبة للبرطيل والبخشيش. هنا لا أحد ” يشك الشيش بخشيش” وموضوع الرشوة ليس خافياً على أحد وقد تزايد بشكل ملحوظ مع تراجع القدرة الشرائية للموظفين وتقهقر اوضاعهم المادية. لا شك أن هناك موظفين أبرياء مستقيمين لكن الدفع صار واجباً والعمولة باتت عرفاً متبعاً واليوم أكثر من أي وقت مضى. الجميع يغض النظر والبرطيل حالة عامة لا يمكن إثباتها او حتى رفع شكوى فيها لأن المواطن والموظف شريكان فيها. ومن كان يقبض مئة الف صار اليوم يقبض 300000 لكن قيمتها لا تزال ذاتها مع انهيار قيمة العملة. والعمولة تتحرك حسب حجم المعاملة العقارية والمنطقة التي تتم فيها، فكل منطقة لها عمولتها. ففي المنطقة الأضعف عقارياً حيث قيمة العقارات كما قيمة تسجيلها غير مرتفعة تكون العمولة مناسبة لها أما في المناطق العقارية الأغلى سعراً حين تكون قيمة العقار أكبر فالعمولة بدورها تكون أعلى . وفي الدوائر العقارية لا بد من التفريق بين السمسار وهو الطارئ على المصلحة وبين المعقب القانوني الذي يملك بطاقة رسمية ويدفع مالية وله الحق بنيل العمولة والمطالبة بحقه أمام المحاكم والنسبة التي يقتطعها لنفسه ليست رشوة ولا برطيلاً بل هي اتعابه القانونية رغم أنه قد يطلب مبلغاً إضافياً لتوزيعه على الموظفين، اما السمسار فيتلاعب على المواطن والموظف ليؤمن نصيبه وإن بغير حق.

وكل موظف يتابع عطية قائلاً “يطلّع براني” حسب رتبته ومسؤوليته ومركزه الحيوي وحسب الختم والتوقيع، ومن الموظفين من يتعاطف مع المواطنين ويسهّل معاملاتهم ببخشيش مقبول فيما آخرون “يسلخون” المواطن ولا يهمهم إلا أنفسهم. لكن عموماً في الدوائر العقارية ورغم كل ما يشاع عنها إلا أن العمولات فيها تتناسب وقيمة المعاملات وكون التداول المالي فيها كبيراً فإن العمولات والدفع فيها أيضاً يصل الى سقوف عالية، إنما بشكل عام تبقى المعاملات القانونية مضبوطة وكمية البرطيل فيها مقبولة وحدها العمليات الخارجة عن إطار القانون والتي غالباً ما تكون قيمتها مرتفعة جداً تدفع فيها مبالغ رشوة كبيرة لتمريرها لأنها تعود بمبالغ طائلة على من يتجرأ ويقوم بها”.

في “النافعة” أو مصلحة تسجيل السيارات يقول أحد معقبي المعاملات ( وكلهم يرفضون ذكر اسمائهم) أنه لا يتم تصدير أي وصل كشف أو تصديق او غيره” ببلاش” وقد بات الأمر عرفاً متداولاً لا جدل بشأنه. النافعة اليوم شبه مغلقة بسبب عدم وجود دفاتر وصولات فيها ولا مازوت لتشغيل المولدات وأنظمة الكمبيوتر لكن قبل الإغلاق سجل البخشيش ارتفاعاً ملحوظاً في قيمته واكب ارتفاع الدولار فقفز من حوالى 75000 للوصل الى 350 و500 الف ليرة. الدفع هنا يتم باللبناني والمعاملة إما تؤجل وتؤجل أو يعمل السمسار بشكل علني وواضح على طلب مبلغ براني من صاحب المعاملة ليتم تسييرها والإسراع بها وإلا بقيت متوقفة وعالقة في انتظار استئناف العمل بشكل طبيعي. ومع توقف معاملات النافعة بات ” البراني” حاجة حيوية يدفعها أصحاب المعاملات العالقة بطيبة خاطر الى السمسار ومنه الى الموظف مهما علت قيمتها التي قد تصل أحياناً الى المليون وأكثر وصارت المقولة “خدوا قد ما بدكن بس مشّولنا شغلنا”… ولكن هل يلام موظف لم يعد راتبه يكفيه لأكثر من أسبوع إن حاول ان يحصّل ما تعجز دولته عن تأمينه له؟

وإذا كان السمسار في بعض الإدارات الرسمية هو الوسيط الذي يمر عبره البخشيش، ففي دوائر أخرى لم يعد الموظف يستحي مطلقاً من الطلب المباشر الذي يجمّله “بلباس الضيافة”. “شو بدك تضيفنا ؟”، “ولو مستكتر علينا سندويش طاووق وقنينة بيبيسي!!!” وهكذا تصبح كلفة “تمرير” إحدى المعاملات البسيطة في دائرة المالية في بعبدا سندويش طاووق او ما يعادله بالليرة اللبنانية اي حوالى 150000 ليرة تبقى أرخص من كلفة تكرار المشوار وما يتطلبه من بنزين إذا ما قرر الموظف تأجيل المعاملة حتى الأسبوع القادم كون الدائرة لا تفتح إلا يوماً واحداً في الأسبوع… وإذا كان إقفال الدوائر الرسمية عدة أيام في الأسبوع أفقع صورة عن انهيار الدولة ولعنة على المواطن فإنه في المقابل يعزز سلطة بعض الموظفين ويجعلهم يتحكمون بأصحاب المعاملات كما يؤكد مندوب لإحدى الشركات يعاني الأمرين ليستطيع إنجاز المعاملات المطلوبة منه بين إقفال الإدارات وتسلط الموظفين.

موظفون يدفعون من نزاهتهم ثمن انهيار الدولة وآخرون أدمنوا الفساد ورفعوا من تعرفتهم مستغلين انهيار الدولة ومواطنون ألفوا اللعبة وعرفوا كيف يقيمون موازينها ليساهموا بدورهم في انهيار الدولة…إنها ثقافة الفساد من تحت الى فوق من البخشيش الى السمسرات والصفقات وسرقة أموال الناس…

المصدر :

نداء الوطن.

Nour
Author: Nour

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى