حبل مخالفات البناء على غاربه في طرابلس والمحيط: أبنية الرشى الانتخابية “قنابل سكنية موقوتة”
تستشري في طرابلس المنية الضنية، الدائرة الانتخابية الثانية في شمال لبنان، رشى انتخابية وزبائنية هي الأخطر في ظل كل ما يعمد إليه المسؤولون والمرشحون والنافذون عشية الانتخابات النيابية لحصد أصوات المقترعين ورفع حواصلهم الانتخابية. خطيرة، لأن تدخُّل القوى السياسية يتخطى الرشى المادية المباشرة إلى تغطية مخالفات البناء التي تعاني منها الفيحاء بالأساس. وعليه تنبت شقق جديدة مخالفة وطوابق إضافية أو توسِعة بناء موجود أصلاً عبر إضافة غرف جديدة ومطابخ ومراحيض، أو تحويل سقوف من الأترنيت أو التنك إلى أخرى إسمنتية، وكلها غير مرخصة وغير مستوفية لشروط السلامة العامة، حيث لا مهندسين مختصين يشرفون عليها، ولا تطبيق لمعايير البناء السليم. ومن طرابلس في أبي سمرا والشلفة على الحد مع زغرتا من ناحية مجدليا، وحتى داخل المدينة نفسها وعلى الطرقات العامة فيها، مروراً بالميناء ووصولاً إلى المنية والضنية، ينشغل الناس في كيفية الإفادة من غض النظر المرافق للانتخابات مع تغطية فعّالة لممارساتهم لتسيير أمورهم الحياتية، سواء لبناء شقق إضافية لأبنائهم وتزويجهم أو لاستثمارها أو لتحسين شروط عيشهم، مستفيدين من التغطية من ناحية ومن انهيار الدولة وضعف سلطتها الرقابية والردعية في هذه الأوقات من ناحية ثانية، إضافة إلى رشى تُدفَع هنا وهناك “لأصحاب النفوس الضعيفة” كما يقول رئيس بلدية طرابلس رياض يمق لـ “المفكّرة القانونية”.
ويحذّر المهندس وسيم ناغي من نقابة المهندسين، وأستاذ جامعي، من هذه الفورة العمرانية والمخاطر المستقبلية التي قد تنجم عنها ليعتبر أن “الفقر وغياب خطط الإسكان لدى الدولة بموازاة التزايد الكبير للسكان، من شأنه فتح الباب للمخالفات من خلال إضافة طابق إلى بناء قائم، أو على أرض محتلة ومصادَرة أو مشاع”، لافتاً إلى “تباهي المرشحين في دائرة الشمال الثانية بتغطية مخالفات البناء، ناهيك ببعض بدع البناء كطابق المر وطرح طابق الميقاتي”. ويرى أنه “في ظل الفساد وانخفاض عديد القوى الأمنية وتراجع تجهيزاتها، يقتنص كثر ما يعتبرونه فرصة ذهبية للمخالفات”.
ويتخوّف ناغي من آثار هذه المخالفات: “لا يمكن إضافة أيّ بناء قبل التحقق من قدرة الأساسات على التحمل، وهذا غير متيسّر في كثير من أعمال البناء المخالفة”، قائلاً “الله يسترنا من الكوارث عند أيّ هزة أرضية غير اعتيادية، لأن هذا النمط من البناء يعتمد أسلوب السرعة في إنهاء المخالفة، وعدم مراقبة جودة الباطون، كذلك عدم التأكد من سلامة البناء وقدرته على التحمل، بالإضافة إلى غياب أيّ إشراف هندسي”. ويضيف “إنها بمثابة قنابل موقوتة مع احتمال سقوطها في أيّ لحظة”. كما ينبّه ناغي إلى أن في الحالات الاعتيادية ثمة “مهندس مسؤول” مهمته الكشف على الأساسات، وعمليات البناء، وإجراء فحوصات لمعرفة جودة المواد المستعملة كما نوعية الأرض المبني عليها.
عمران على مد العين والنظر
يوماً بعد يوم، يتسع نطاق مخالفات البناء حول طرابلس، وعلى طول الطريق من عاصمة الشمال إلى الضنية، ومنها إلى المنية، إضافة إلى توسُّع مناطق السكن العشوائي في الميناء (الحارة الجديدة، المساكن الشعبية، حي التنك)، وكذلك في المنكوبين، ووادي النحلة، يبدو عدد كبير من السقوف الباطونية الحديثة الظاهرة إلى العيان، أو في طور البناء.
يسابق أصحاب الورش الوقت لإنجاز أعمالهم قبل موعد الانتخابات في 15 أيار 2022. ومن خلال المشاهدة الميدانية للمنطقة الممتدة من طرابلس جنوباً إلى الضنية شمالاً، مروراً بمنطقة القبة، العيرونية، الفوار، كفرحبو، وصولاً إلى أوتوستراد بخعون – طاران، تشهد المنطقة فورة عمرانية ملحوظة، وتبدو مخالفات كبيرة تصل إلى 3 طوابق إضافية على مبان قائمة على الطريق العام. تتكرر الصورة في الطريق من طرابلس، إلى المنية عبر أوتوستراد البداوي، مروراً بالمنكوبين، وادي النحلة، ودير عمار. وكذلك الأمر داخل منطقة أبي سمراء لناحية الشلفة في اتجاه مجدليا نحو زغرتا. ويمكن ملاحظة الرابط بين المخالفات في تلك المناطق لناحية وجود تغطية سياسية مباشرة، حيث لا يمكن استثناء أيّ طرف من دائرة الاتهام في تغطية المخالفين. ففي المنية اعترف النائب عثمان علم الدين المرشح على لائحة اللواء أشرف ريفي صراحة بتغطية “سقوف المنية”، وهذا الأمر يتكرر في منطقة الشلفة أبي سمراء، حيث تغطي صورة المرشح براء أسعد هرموش أحد أعضاء “لائحة للناس” الناتجة عن تحالف كبارة – الميقاتي، الكثير من المباني.
تنشط عملية “وصل الأبنية” في منطقة ضهر المغر، ولكن على نطاق محدود، بسبب عدم وجود مساحات للاتساع الأفقي، فنرى التوسع عامودياً. ويُلاحَظ في السويقة “عقبة الحمراوي” إقامة طوابق عليا فوق مبان تراثية من الحجر الرملي. يقول المواطن محمد العبد “أين يذهب الناس؟ إنهم مجبورون على فعل ذلك”. أما في منطقة المنكوبين التي ارتبط إنشاؤها بكارثة فيضان نهر أبو علي أواسط الخمسينيات، لا ينكر الأهالي أنهم يستفيدون من “فرصة الانتخابات” من أجل توسيع بيوتهم من خلال إضافة غرفة أو مطبخ، أو تحويل أسقف من التنك إلى الإسمنت، وكذلك زيادة أخرى على الأبنية القائمة، لأن “الأُسَر تحتاج إلى زيادة مقاسم إضافية من أجل تزويج أبنائها” يقول أحدهم.
يشير فاضل سيف، مختار وادي النحلة إلى أنه “لم تُسجَّل أيّ اعتداءات على أراض جديدة في المنطقة”، وإنما “اقتصرت المخالفات على إضافة بعض الطوابق على أبنية أقامها الآباء والأجداد منذ عقود، تحت وطأة الحاجة إلى توسيع المنازل بسبب ازدياد عدد أفراد العائلة”، “كما أن العائلات تريد تزويج أبنائها لسترهم، وليس لديها إمكانية لشراء أراض لاستحداث أبنية، أو حتى استئجار بيت في مدينة طرابلس لأنه ليس هناك بدل إيجار دون 100 دولار، من أين لنا هذا المبلغ الكبير؟”، يضيف. ويوضح سيف أن “هذه الأبنية أقامها الأجداد على أراضي آل جودة وأراضي أوقاف منذ عشرات السنين، إلا أنه لم يتم وضع اليد على أيّ أرض حديثة خلال الفترة الراهنة”، مؤكداً أن “التنفيسة التي تتركها الدولة خلال فترة الانتخابات، تسمح للناس بزيادة على الأبنية القائمة”.
بالانتقال إلى الميناء، وتحديداً في مناطق الحارة الجديدة، المساكن الشعبية، وحارة التنك، تتكرر مخالفات مشابهة لناحية الزيادات على المباني. يشكو السكان من سوء الخدمات وتدهور البنى التحتية وتجاهل البلدية للحاجات الأساسية للمقيمين بذريعة سكنهم في العشوائيات. وتؤكد مصادر من بلدية الميناء وجود مخالفات، وتسطيرها خلال الأشهر القليلة الماضية ما لا يقل عن 200 محضر مخالفة في الميناء، وتحديداً في نطاق منطقة العشوائيات. وتضيف مصادر بلدية الميناء أن “القبضايات المدعومين سياسياً هم من يقفون خلف أكثرية المخالفات الكبرى، وهؤلاء يتوزعون على مختلف التيارات السياسية الطرابلسية دون استثناء”.
زبائنية انتخابية
في زمن الانتخابات يغدو كل شيء مباحاً، لتسود قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة” وتتصدر الأدبيات الأساسية للمرشحين. ومن أجل بلوغ الحاصل، لا بأس باستباحة القانون، وكامل قواعد التنظيم المدني ومبادئه، وتغدو تغطية المخالفات أمراً مشروعاً . ووفق هذه المعادلة، انتشرت مئات “مخالفات البناء” على امتداد محافظة الشمال.
تتخذ المخالفات هذا العام أبعاداً جديدة في بعض مناطق الأطراف في طرابلس، حيث باتت تشكل خطراً على الملكية الفردية المحمية وفق الدستور اللبناني. وفي وقت تقتصر المخالفات في بعض مناطق الشمال على إقامة “صبّة إضافية”، تتخذ بُعداً جديداً غير مسبوق في بعض المناطق ومنها الميناء حيث بني “سوق مواز” لسوق الخضار تعهدت قوة من الجيش بإزالته، إضافة إلى تشييد أبنية على أملاك الأوقاف الإسلامية في أبي سمراء والبداوي، وصولاً إلى البناء على أملاك الغير في قلب أبي سمراء وعلى طريقها العام.
سوق الخضار في خطر
في منطقة المحجر الصحي في الميناء، شكلت محاولة “محاصرة سوق الخضار الجديد” صدمة للطرابلسيين، وسرعان ما تحركت ورش بلدية طرابلس لمنع تثبيتها على أرض الواقع. وقامت جرافات البلدية بإزالة البسطات، وأكشاك الصفيح. ومن خلال معاينة آثار المخالفات، تظهر أساسات حديدية وإسمنتية لأعمدة أساس يمكن الاعتماد عليها لإقامة الجدران لاحقاً.
ويتهم رئيس بلدية طرابلس رياض يمق في حديث مع “المفكّرة القانونية ” إحدى قوى الأمر الواقع، بـ “تغطية إنشاء هياكل من الصفيح على الأملاك العامة بموازاة سوق الخضار الجديدة وبحجة إقامة بسطات للتكسُّب”. يقول يمق “إن هذا الأمر مرفوض بالنسبة للبلدية لأنه يشكل تكريساً للفوضى، وهو يفتح الباب لارتكاب مزيد من المخالفات التي تُطل علينا كل 4 سنوات في زمن الانتخابات، حيث تصبح البلاد مشرَّعة لفوضى العمران”.
يستند يمق إلى الكشف الميداني الذي نفذته شرطة البلدية، ليؤكد أنه تحت ألواح الصفيح كان هناك أساسات للبناء، مضيفاً “كانوا يريدون خداعنا وإعطاء الانطباع أنها مجرد بسطات، ليقوموا ببناء متاجر مخالفة على وجه السرعة”.
أظهرت عمليات هدم المنشآت التي قامت بها شرطة البلدية على مرحلتين وبمؤازرة من اللواء 12 في الجيش اللبناني، وجود أساسات تحت الصفيح. ويستهجن يمق هذه الجرأة على مخالفة القانون ليصفه بأنه يخالف أدنى القواعد الأخلاقية، مستغرباً وصول المخالفات إلى قلب المدينة “كان هذا الأمر شائعاً في القرى قديماً بسبب غياب الدرك، ولكنها وصلت إلى قلب المدن وباتت تتهدد التنظيم المدني في طرابلس”.
يضع رئيس البلدية رياض يمق هذه المخالفات في سياقها العام، قائلاً “نحن أمام مال انتخابي على شكل تغطية مخالفات بناء، فعندما تغطي فرداً ما بإقامة مخالفة، فإنك تفتح الباب أمامه لمكاسب بمئات الآلاف من الدولارات”.
الشلفة تتمدد
في منطقة أبي سمراء، تنتشر ورش البناء في منطقة الشلفة. بعد اجتياز حاجز الجيش الفاصل بين زغرتا – مجدليا وطرابلس تظهر للعيان الأبنية الجديدة المستحدَثة. وما إن يصل زائر المنطقة إلى مجرى نهر أبو علي حتى يكتشف إقامة بناء وسلسلة محلات يحاول القيّمون عليها استكمالها على وجه السرعة.
يتطرق يمق إلى بدء المخالفات منذ أشهر في منطقة أبي سمراء وتحديداً “الشلفة”، وهي منطقة تقطنها عائلات نزحت من الضنية إلى طرابلس، وآخذة بالتوسع بفعل الكثافة السكانية وزيادة عدد العائلات والمقيمين من لبنانيين ولاجئين. وتفتقر المنطقة إلى البنى التحتية، وشبكات المياه والمجاري الصحية المسلَّطة إلى نهر أبو علي. وعلى خلاف المناطق الشعبية الأخرى كالتبانة والمنكوبين، التي شهدت إضافات محدودة على الأبنية كغرف ومقاسم، فإن “الشلفة شهدت إقامة مبان كاملة على أملاك عامة”، وبعضها قام على أراضي الأوقاف وكتف مجرى النهر، قائلاً “هذا مال حرام، لأن البناء على الأملاك الوقفية والملكيات العامة غير جائز” حسب يمق.
يشكل هذا المعطى بالنسبة إلى رئيس البلدية دليلاً واضحاً على ضعف هيبة الدولة، وتأخُّر القوى الأمنية في قمع المخالفات بسبب الانهيار الاقتصادي وعدم توافر الإمكانيات و”غضّ البصر”، “ربما بسبب “ضعف في بعض النفوس”، كما يقول. يروي يمق أنه وجَّه، منذ أكثر من شهر، كتباً إلى وزارة الداخلية والمحافظة، إلا أنه لم يتلق أيّ رد “وهذا الأمر غير مألوف، لأننا تابعون بالقرار مركزياً لوزارة الداخلية”، وعند الاتصال المباشر بوزير الداخلية “أبلغنا أنه طلب من قيادة الدرك التحرك لإزالة المخالفات”، يؤكد يمق. كما يتطرق رئيس بلدية طرابلس إلى مطالبته المباشرة من مخافر القوى الأمنية مؤازرة عناصر البلدية لإزالة المخالفات، قائلاً “قمنا بواجبنا بتنظيم المحاضر، وإرسالها إلى الجهات الأمنية والمحافظة الذين يشكلون القوة الضاربة في كبح المخالفات”. ويشير إلى أنه “إذا ما كان متعذراً إزالة البناء، فأقله توقيف المخالفين عن إتمامه، وهذا أمر لم يجر في أبي سمراء”. وعند الحديث عن قيام القوة الضاربة بمحاولات إزالة بعض المخالفات، ووصول الأمر إلى حد المواجهة مع المواطنين وصولاً إلى قطع الطرقات، يعلّق رئيس البلدية رياض يمق بأن “الفشل في قمع بعض المخالفات، يفتح الباب أمام مخالفات أخرى”.
وعن دور شرطة البلدية في قمع المخالفات، يرى يمق أن “الشرطة البلدية قوامها بين 40 و50 عنصراً عاملاً على الأرض، وهم قوة مساندة، كما أنهم غير مجهزين لوجستياً لعمليات هدم أبنية محمية من أفراد مسلحين مدعومين بالمال والرشوة”، “كما أنه لا يمكنهم قانوناً حمل السلاح، لذلك نطلب بالطرق الاعتيادية المؤازرة من القوى الأمنية”.
يتخوّف يمق من أن يؤدي “عدم إزالة المخالفات إلى استباحة المدينة والأملاك العامة للدولة”، كما أنه “يهدد السلامة العامة لأنها أبنية خطرة لا تراعي الشروط الهندسية”. “وفي حالة البناء القائم على مجرى النهر، قامت الدورية والجرافة بكسر جانب من المبنى، ولكنه سرعان ما تم تقويمه وإكمال الأعمال، وقد شكونا ذلك إلى وزارة الداخلية والقوى الأمنية”، لافتاً “لو هدموا مخالفة واحدة، لما تجرأ أحد على البناء من جديد، ولكنهم لم يفعلوا”.
ويتطرق يمق إلى “ازدواجية المعايير” التي تعتمدها القوى الأمنية، “في الوقت الذي لا يؤازرنا هؤلاء في إزالة المخالفات، قامت سرية من الأمن الداخلي بوقف الأعمال في مشتل البلدية في منطقة الضم والفرز، بحجة وجود هنغار للعمال والعدة غير مذكور في رخصة العمل. وبالرغم من ذلك استجابت البلدية، وقامت بتعديل الترخيص”.
يشير يمق إلى أن عدم خضوع الأبنية المقامة على الملك العام وعلى أملاك الغير للتسوية القانونية، لأنها ليست مجرد مخالفة بناء عادية ضمن الملك الخاص للباني”، منبهاً إلى خطورة إقامة طوابق إضافية فوق سطوح الأبنية بدون الحصول على رخصة أو إتمام الكشف الهندسي، وهذا أمر يهدد البناء بالسقوط كما حصل العام الفائت في أبي سمراء.
الأملاك الخاصة في خطر
لم تقتصر الاعتداءات على الأملاك العامة، وإنما تجاوزتها إلى البناء على الأملاك الخاصة لبعض المواطنين. فقد انشغل الرأي العام الطرابلسي مؤخراً بإقامة أحد المقاولين 4 متاجر على العقار رقم 265- زيتون طرابلس، وهو عقار يملكه مواطنون من آل نشابة، إحدى كبرى العائلات الطرابلسية. وقد تحركت العائلة وفق المسار القضائي عبر وكيلها القانوني لإزالة المخالفة.
يروي المحامي محمد صبلوح لـ “المفكّرة القانونية” أن “المعتدي قام بالبناء على مواقف تابعة لأحد الأبنية، عبر بناء 4 كراجات في منطقة تقع على الطريق العام في أبي سمراء، وهو مكان يقع تحت نظر القوى الأمنية”. ويقول “تواصلتُ مع المدعي العام زياد شعراني الذي أوعز بمراجعة المخفر مباشرة، عندها أبلغني المخفر بأنه سيتخذ الإجراءات المناسبة، وآنذاك ألمح لي أحد العناصر بأن المخالفة تحظى بالتغطية”، وعند العودة إلى النائب العام، طلب إزالة المخالفة، وقد قامت القوى الأمنية بإزالتها في المرة الأولى.
إلا أن المفاجأة الكبرى كانت، عندما أعاد المعتدي بناءها من جديد في اليوم نفسه وعند حلول الساعة 6 مساءً. يلفت صبلوح إلى أنه اتصل بـ “طوارئ الدرك، الذي أحالني إلى المخفر. قمت بعد ذلك بقصد المخفر مباشرةً، لطلب المؤازرة فكان الرد بأن العناصر غير موجودين، وهم في مهمة فض مشكل بين زوجين، وأنه لا يوجد أحد، وأن النقيب خارج التغطية”.
يكمل صبلوح روايته، “عندها قمت بالتواصل مجدداً مع النائب العام زياد شعراني لإبلاغه بما يحصل، فأصر على قيام آمر الفصيلة بواجباته”، عندئذ قام آمر الفصيلة بطلب 18 عسكرياً للالتحاق بمركز خدمتهم من أجل إزالة المخالفة، ولكن “المفاجأة كانت بقدوم عنصرين فقط من أصل 18، توجَّها مع قوة من المخفر للتبليغ”.
يضيف صبلوح عند منتصف الليل، اتصل به المدعى عليه (أي المعتدي)، وتعهد له بإزالة المخالفة لاحقاً، عند فرز العقار، “إلا أنني رفضت لأنني مؤتمَن على أموال الناس، فما كان منه إلا أن بدأ بالتهديد لأنه لم يدفع آلاف الدولارات لكي تأتي القوى الأمنية وتهد الكراجات، وأنه سيبيت مع زوجته وأولاده داخل الكراجات لمنع هدمها”.
يتهم صبلوح القوى الأمنية بالتقصير، لأن “المخالفة واقعت في ملك خاص على الطريق العام بأبي سمراء، ولولا وجود تغطية لما تمكن من إعادة بناء المخالفة “هذا الأمر دفعني للادعاء رسمياً لدى النيابة العامة، وأرسلتُ محامية من مكتبي إلى المخفر لفتح محضر حيث تمكّنت رغم المماطلة من إجرائه، وتم اتخاذ قرار ثانٍ بالإزالة”. انتظر صبلوح أسبوعين لإتمام التبليغات بين الوحدات الأمنية، قبل أن يقوم شخصياً بتسليمها إلى البلدية، التي “قامت مباشرة بإرسال مهندس إلى المخفر لتنسيق الإزالة، لتُفاجأ بالرد أنكم تأخرتم”. وعليه، قرر صبلوح خوض معركة مباشرة مع المخالف ومن يغطونه عبر مواقع التواصل، وجَّه فيها اتهامات بالتقصير للقوى الأمنية، لحين الوصول إلى ما يشبه التسوية “سحب المحامي للفيديو لقاء إزالة المخالفة”.
يتخوّف المحامي محمد صبلوح، وكيل الجهة المدعية، من تكرار المخالفة للمرة الثالثة، محذراً “بعض المخالفين تلقوا وعوداً من مرجع سياسي بأنه سيكون هناك غض نظر في فترة الأسبوعين السابقة للانتخابات النيابية”. كما أنه ينبّه من التضييق عليه، وطلب إذن بملاحقته من نقابة المحامين في طرابلس، ذلك أن “قوى الأمن الداخلي استحصلت على إشارة من النائب العام في المحكمة العسكرية كلود غانم لطلب الإذن بملاحقتي، بتهمة التشهير والافتراء بحق النقيب آمر الفصيلة دونما إشارة إلى أيّ محضر”. لكن نقابة المحامين حفظت الكتاب لأنه “لم يأت من جهة ذات صلاحية، فقد جاء من جهاز أمني، وليس من النيابة العامة العسكرية. كما أنها مخالِفة للقانون بسبب عدم ارتباطها بمحضر”.
يؤكد المحامي صبلوح أنه سيتقدم برد على طلب إذن ملاحقته، متحدثاً عن معطيات كافية لتبرئته، وطرح علامات استفهام تجاه سلوك المخالفين، “حبذا لو فُتح تحقيق مع مَن سمح بالبناء المخالف بشكل مفاجئ على كافة مناطق الشمال، قبل ملاحقة محام”، يقول.
يعتقد صبلوح أن إزالة المخالفة في أبي سمراء ساهم نوعاً ما في “كبح فوضى البناء المخالف في طرابلس”، لأن “بعض النافذين على مستوى الأحياء الشعبية، هددوا مباشرة بإقامة مشاريع بناء مخالفة في حال عدم إزالتها”.
الأوقاف الإسلامية الذرية في خطر
لم تتوقف المخالفات عند الأملاك العامة والخاصة، وإنما تجاوزتها إلى أملاك الأوقاف الإسلامية. وهذا ما يؤكده رئيس دائرة الأوقاف الإسلامية في طرابلس بسام البستاني، مشيراً إلى “أعمال بناء مخالفة أقيمت على الأوقاف الذُرية في منطقتَيْ أبي سمراء والبداوي التي يتولى إدارتها متولي مُعيّن من المحكمة الشرعية، عبر قضم أراضي لتوسعة المساكن والأراضي المسيطر عليها”. يرفض البستاني تحديد “عدد العقارات المعتدى عليها”، لأن “الإشارة إلى عددها قد يفتح شهية آخرين للتعدي على الأملاك الوقفية”.
ويلفت الشيخ البستاني إلى أن الوكلاء القانونيين للدائرة يقومون باتخاذ الإجراءات القانونية مباشرة ضد المعتدين، و”اللجوء إلى القضاء” في مواجهة الذين “يتجرأون على أفعالهم كل 4 سنوات في موسم الإنتخابات” و”إستغلال ضعف هيبة الدولة”، مطالباً الأجهزة الأمنية بالحزم والتشدد في قمع التعديات.
ويحذّر المعتدين لأنهم “سيدفعون ثمن تعدياتهم، وستُتَّخذ الإجراءات القانونية بحدها الأقصى، ولأن الظلم ظلم، ولأنه لا يجوز تعدي أيّ فرد على ما لا يملك، ذلك يُعَدُّ اغتصاباً للأرض”.
ويلفت رئيس دائرة الأوقاف الإسلامية بسام البستاني إلى وجود حلول قانونية للاستفادة من الأملاك الوقفية، إذ يمكن للأشخاص التقدم بطلب لاستئجار الأراضي من دائرة الأوقاف لإقامة مشاريعهم بعد تقديم ملف الجدوى، وتتم دراسته ومنحه الترخيص، إلا أنهم يفضلون الطريق الأسهل وفق قاعدة “كل شي ببلاش كتر منو”، وفق ما يقول.
وفي ما يتعلق بالآليات المعتمدة لحماية الأوقاف لأملاكها، يتحدث البستاني عن “ملكيات كبيرة وأراض شاسعة، يكلف تسويرها وحراستها نفقات عالية في ظل شح المداخيل والموارد”، لذلك فإن “الدائرة تعتمد أسلوب الحكمة في إزالة المخالفات، لعدم إثارة المشاكل وإراقة الدماء”، كاشفاً عن “إجراءات يتوقع أن تقوم بها الدولة خلال الأسبوع المقبل لإزالة المخالفات تباعاً”.