خطوط قوة غير مرئية… إن أردتم فهم هجوم بوتين اسألوا “بارفوس”
في عام 1721 تخيّل بيتر العظيم فكرة لبناء إمبراطورية روسية. كاثرين العظيمة حققت حلمه في عام 1768. أرسلت قوات لغزو السهوب الجنوبية أي أوكرانيا اليوم. وقتذاك أَسَّسَت طريقَ نقل الحبوب، العابر كييف، وهو لا يزال حاضراً إلى يومنا هذا. طريق ليس نزهة؛ فبين الـ 1768 و 1856 اندلعت سلسلة حروب مكّنت كاثرين والقياصرة من بعدها من السيطرة على معظم أوكرانيا الحديثة ليتم تطبيق نظام الضرائب على طرق القمح العابر من أوكرانيا إلى البحر الأسود
من دون الضرائب تلك والطرق لبقيت روسيا تحت حكم الاتحاد البولندي السويدي (الكومنولث البولندي الليتواني ومملكة السويد). كان حطب الاتحاد هذا وقمحه أساسيين لأوروبا، وكان جيشه وبحريته يسيطران على بحر البلطيق
“لا يدرك أهمية غزو أوكرانيا اليوم أحد أكثر من بوتين”، تكتب مجلة “تايم” في تحقيق لها. بحسب المجلة، أضرّت عملية “سيد الكرملين” بالمحاصيل الروسية نفسها، فمع العقوبات المفروضة على موسكو، تظل الشحنات الروسية عالقة في موانئ البحر الأسود، ومن غير المحتمل أن تصل وجهتها إلا بعد انتهاء الحرب أو رفع العقوبات. هذا، بالإضافة إلى العقوبات، من شأنه أن يقضي على أمل إعادة استرجاع أوكرانيا. وفق “التايم”، يعكس الهجوم الروسي راهناً توجهاً كان لدى الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي منذ أزمنة غابرة
حقول القمح الأوكرانية تتركز في برارٍ منبسطة تقع قرب البحر الأسود. يحكي التاريخ، أن تأسيس الاتحاد السوفياتي (1917- 1991)، والإمبراطورية الروسية قبله (1721 – 1916)، يعود إلى السيطرة على تدفق القمح عبر أوكرانيا إلى العالم
الاسم المتداول لطرق التجارة في العصور الوسطى هو “chorni shlyakhyy” أي الطرق السوداء بالأوكرانية. وقتذاك، قدّر الاستراتيجيون في الإمبراطورية الروسية القيمة العظمى وراء بيع القمح لإطعام عالم جائع. ثمة شخص فهم هذا أكثر من غيره. كان تاجر قمح ومفكر استراتيجي في العهد السوفياتي، اسمه إسرائيل ألكسندر هلبهاند، المعروف في كتاباته باسم “بارفوس”، ويعتبر من أهم المفكرين في القرن العشرين
في عام 1870 كان بارفوس يعمل في موانئ أوديسا، وكان ينقل عبرها القمح إلى لندن وليفربول وأنتويرب وأمستردام. هي محطات وصفها بمدن “الاستهلاك التراكمي”، حيث كانت نقاطاً لطحن القمح، وصنع الخبز لإطعام الطبقة العاملة في الدول المعروفة بطلبها المرتفع على القمح، مثل إيطاليا، ألمانيا، بريطانيا وفرنسا
وفي عام 1850 ساهم القمح الأوكراني والخبز الرخيص بإطعام عمال المصانع الجديدة ممن انتقلوا من الأرياف والقرى إلى المدن المتوسعة باطراد. تقول “التايم” إن “الثورة الصناعية كانت تعتمد على حصة سنوية تبلغ مليون طن من القمح الأوكراني الرخيص”
…في عام 1863، أسس “جيش الاتحاد” الأميركي أنظمة جديدة لنقل الحبوب إلى الموانئ في نيويورك وأتلانتيك أوشين. لم يدرك بارفوس أساليب الأميركيين لفعل ذلك، لكنه يعلم تماماً أنه ما بين عامي 1863 و1873، تمكن القمح الأميركي الرخيص من الوصول إلى أوروبا، ليُستبدل كلياً بالقمح الروسي في الموانئ الأوروبية. حينها، أدرك تاجر القمح أن ذلك كان يعد مؤشراً الى تدهور اقتصادي كلي، بدأ في أوكرانيا وامتد عبر أوروبا، فيما يسمى بـ”ذعر عام 1873″
تحكي “التايم” قصة بارفوس، الذي كان يرى التجارة خطوط قوة غير مرئية عبر السهول والمحيطات، وهو ما أعاد تشكيل العالم. هي خطوط قوة غير مرئية في تلك الطرق السوداء، كان بارفوس متأكداً من إمكان استخدامها لإطاحة الإمبراطورية الروسية واستبدال شيء آخر بها – “الثورة الروسية”
أقنعت كتابات بارفوس فلاديمير أوليانوف (لينين) بأن الثورة في روسيا ممكنة. وتعلمت روزا لوكسمبورغ (جونيوس) عن قوة الإضراب الجماهيري والنظام العالمي الرأسمالي. راجعت كتاباته وتوسعت في مقاربتها للوصول إلى جمهور قراءة أوسع للعمال الألمان، حيث استخدمت خطوط بارفوس غير المرئية لإنشاء طريقة جديدة لفهم التجارة هي اليوم: نظرية الأنظمة العالمية. وخلال 12 عاماً تعلم بارفوس وتروتسكي من متابعة تشكل دولة في تركيا، كيفية إنشاء قوة قتالية تجمع بين التعليم والخدمة العسكرية. قوّة أُطلق عليها لاحقاً اسم الجيش الأحمر
أدرك بارفوس أن اسطنبول ستكون ذات أهمية خاصة ضد روسيا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، فقرر التضامن مع تركيا وألمانيا ضد الروس وفرنسا وبريطانيا. آمن بأن خنق الصادرات الروسية في موانئ البحر الأسود سيقف أمام إطعام بريطانيا وفرنسا
“تايم”، تحكي عن تأسيس بارفوس “تحالفاً مصيرياً” مع الحكومة الألمانية. يقوم التحالف هذا على أن الطريقة الممكن من خلالها وقف الحرب عبر الجبهة الشرقية، تتجسد بمنحه الأموال لإدارة عملية لتهريب القمح من بحر البلطيق ومنحه قطاراً مزوداً بجنود من البلاشفة والمناشفة، حيث استخدم الأرباح المحصّلة من بيع القمح لتمويل صحف بلشفية أقنعت الجنود والبحارة الروس بعدم فائدة الحرب، وأهمية الثورة حلاً وحيداً للخلاص
…مع بداية الثورة الروسية عام 1917، تدخل البلاشفة في خطط الحكومة الليبرالية لإطعام موسكو وبطرسبورغ من أوكرانيا، ونجحوا في ذلك عبر التسلل إلى أنظمة السكك الحديد الروسية، ما ساعد في سد الطرق التي من شأنها تغذية المدن
زاد الفقر من حدة الغضب تجاه الحكومة الليبرالية. سمح للسوفيات بالسيطرة على المدن الروسية الكبرى، ولم تتمكن روسيا من قضاء شؤونها، لتنشأ جمهورية الاتحاد السوفياتي الاشتراكي الروسي. بعد سنوات، قضى جوزيف ستالين على استقلال أوكرانيا بمجاعة مفتعلة في الثلاثينات
…تعتلي روسيا اليوم عرش تصدير القمح. حرائق عام 2010 رفعت الصادرات الأوكرانية أربعة أضعاف، لتغدو معها كييف خامس أكبر مصدّر للقمح. تقدّم أوكرانيا، يُهدد العرض الروسي.
المصدر :
صحيفة النهار اللبنانية.