أمهات لبنانيات طالت رحلة بحثهن عن جنسيّة لأبنائهن
أمهات لبنانيات طالت رحلة بحثهن عن جنسيّة لأبنائهن
في يوم الأمهات، يتعاظم خطاب الثناء وتتنوع فنون المفاجأة لإسعاد قلب الأم اللبنانيّة، ولكن المعايدة الوحيدة التي تنتظرها هذه الأم، تبقى في تكريس المساواة التامة، وإشعارها بحقوقها الكاملة كمواطنة أمام القانون والمجتمع. ويشكل مطلب “منح الأم اللبنانية المتزوجة من أجنبي الجنسية لأبنائها” أساساً لمعالجة إحدى أعمق أشكال التمييز، التي يمارسها النظام القائم بحق “التاء المربوطة”. لبنانياً، يستمر الاعتماد في القانون على “رابط الدم”، معياراً لمنح الجنسية القانونية للمولود على أراضيه، وذلك على خلاف شريحة أخرى من البلدان التي تنطلق من معيار الأرض ومكان الولادة لمنح الجنسية، بغض النظر عن جنسية الأب أو الوالدين.
“الأم هوية”
يعيش أبناء الأم اللبنانية المتزوجة من أجنبي حالة من الصراع، بين انتمائهم إلى الأرض التي ولدوا ونشأوا فيها، في مقابل حرمانهم من الحد الأدنى من الحقوق المدنية. مراد عياش (32 سنة لاجئ فلسطيني)، واحد من هؤلاء الذين ينتمون إلى لبنان من ناحية الأم، فهو ولد، عاش، وترعرع هنا، كما أنه يكافح من أجل الحصول على فرصة عمل لائق، وطبابة جيدة، والحق في التعبير عن أفكاره. يتحدث عياش عن تمييز بحق المرأة اللبنانية، فالمرأة المتزوجة من أجنبي دائماً ما تسمع عبارات رافضة وتساؤلات: “لماذا تزوجت من فلسطيني؟” كما تحذر الأسر من تزويج بناتهن من أجنبي، ولذا هو يأسف أن “والدته لا تحظى بحقوقها الكاملة كمواطنة لبنانية”.
درس عياش في مدارس لبنانية، قبل حصوله على شهادة جامعية في تخصص الهندسة، إلا أنه لم يتمكن من العمل في تخصصه، أو الانتساب إلى النقابة، فهو على غرار سائر الفلسطينيين محروم من حق العمل بعشرات المهن، كما أنهم يواجهون عراقيل عدة بسبب إرباك الإدارة اللبنانية عند مطالبتهم بتأسيس عمل، أو اتجاههم لتسجيل مؤسسة يسهم بها. ويروي عياش الذي تعود جذوره إلى منطقة عكا في شمال فلسطين، أنه “عانى من البطاقة الزرقاء، وهي وثيقة تصدرها مديرية شؤون اللاجئين للتعريف باللاجئ الفلسطيني، ويبقى 6 آلاف فلسطيني محرومون منها، وهو في كثير من الأحيان تجاوز مقابلات العمل، وعند بلوغ مرحلة توقيع العقد، يتم استبعاده بسبب شرط الجنسية”.
ويقول عياش “نحنا ولاد البلد” نمتلك جميع الصفات الاجتماعية والثقافية، ونعيش على وقع الأحداث في لبنان، “حديث الشارع الفلسطيني في المخيمات هو الحديث اللبناني اليومي”، ولكن هناك إصرار على فصل فئة من الناس وتهميشهم”، كما أنه “ممنوع عليهم إبداء الرأي في القضايا المحلية الشائكة منعاً لاستفزاز الغير”.
قانون الجنسية
بعد إثبات وجوده في المجال الفكري والثقافي، اتجه عياش لتأسيس عمل خاص به، واضطر للاستعانة بأصدقائه الموثوق بهم من أجل تسجيل مؤسسته، منتقداً “الحض على العمل في السوق غير الرسمية، لأنه على سبيل المثال الفلسطيني ينتسب إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لكنه لا يحظى بخدماته ورعايته، يدفعون رسوم التسجيل ولا يستفيدون من الخدمات، لذلك قد يبدي العامل استعداده للعمل من دون تسجيله في الضمان”.
منذ قرابة المئة عام وفي 1925، وضع المشرع اللبناني نظام الجنسية في ظل الانتداب الفرنسي. وأدى ذلك إلى حرمان أبناء الأم اللبنانية المتزوجة من أجنبي من حق الحصول على الهوية الوطنية اللبنانية. وتلفت كريمة شبّو (مديرة حملة جنسيتي حق لي ولأسرتي) إلى أن هذا القانون يفتح الباب أمام عدد كبير من الانتهاكات التي تطاول الحقوق الأساسية للنساء وأسرهن، وتشير إلى اختلاف النظرة لدى المشرّع بين لبناني يمنح الجنسية لزوجته الأجنبية، في مقابل حرمان زوج وأبناء الأم اللبنانية من هذا الحق.
تتحدث شبّو عن عراقيل سياسية تحول دون وضع قانون جنسية عادل، حيث “يضع المسؤولون حججاً واهية كالتوازن الديموغرافي والتوطين، التي لا ترتكز إلى أسس حقوقية أو قانونية، وتضرب بعرض الحائط المساواة بين المواطنين والمواطنات، وهو مبدأ أقره الدستور اللبناني”، كما “تندرج هذه الحجج تحت مندرجات العقلية الذكورية التي تنظر إلى النساء كتابع وملحق بالرجل، العائلة، والزوج، وتنعكس هذه العقلية على التعاطي مع العملية التشريعية”.
استثناء واحد وانتهاكات متعددة
تتنوع الانتهاكات القانونية التي يتعرض إليها أبناء الأم اللبنانية المتزوجة من أجنبي، سواء في سوق العمل، والحق بالطبابة والتعليم، وغيرها من الحقوق. وتعتقد الناشطة كريمة شبّو أن “الحلول الجزئية لن تصلح الأمر، وإنما يجب تعديل القانون، واعتماد معيار موحد يساوي بين المواطنين والمواطنات ويمنع كافة أشكال الاستنسابية، لنكون أمام قانون عادل يعامل النساء والرجال على حد سواء”، وعليه “كما أن الرجل اللبناني يمنح الجنسية لأبنائه، كذلك يحق للأم ذلك، بالتالي إلغاء المادة الأولى من قانون الجنسية الذي يعتبر كل ولد من أب لبناني لبنانياً، وجعلها: ولد من أب لبناني أو أم لبنانية”.
لذلك ترفض شبّو اقتصار الاحتفال بالأم والمرأة في يوم واحد، وتحويله إلى مناسبة خطابية وشعرية، وإنما يجب تكريس منظومة حقوق الإنسان في كل يوم، لأن “الانتصار الحقيقي هو منح الأم المساواة التامة”، و”لا بد أن تسلك مسارها التشريعي والتنفيذي لجعلها عيدية حقيقية للأم اللبنانية”.
مراسيم التجنيس؟
في موازاة رفض تعديل قانون الجنسية في لبنان، أقر المتشرع لمراسيم تجنيس متتالية، أشهرها مرسوم 1994. وبحسب كريمة شبّو، فإن المشرّع اللبناني لا تحركه معايير حقوق الإنسان، وإنما يعطي الأولوية للمصلحة السياسية والحزبية، والمكاسب الذاتية، معلقةً على حجة “منح الجنسية لمستحقيها”، لأنه “لا يوجد مستحق للجنسية أكثر من أبناء المواطنات اللبنانيات، فمن تمنح الحياة لأطفالها، لها الحق بمنح جنسيتها لهم”.
كما تعتبر شبّو أن الضرر بحملة الجنسية لا ينتج فقط عن المسؤولين، وإنما يتجاوزها إلى “بعض المتاجرين والمتاجرات بهذه القضايا”، لأن البعض منهم “يعطي الأولوية للتبعية السياسية والطائفية على حساب حقوق النساء”، “ولا يتوانى عن الترويج لقوانين تتضمن استثناءات ومعايير تمييزية بحق المرأة اللبنانية وأبنائها على غرار منح الجنسية لمن هم دون السن القانونية”.
الجنسية “حق قانوني كامل”
ويعد المجتمع المدني اللبناني من أوائل المطالبين بوضع حلول جذرية لمشكلة الجنسية وإلغاء القوانين التمييزية بحق المرأة في العالم العربي. وتشير شبّو إلى أن حملة الجنسية انطلقت من لبنان، لتنتشر في أنحاء العالم العربي، إلى مصر فالجزائر وتونس والمغرب والبحرين وسوريا والأردن. وأثمرت هذه الحملة إصلاحات قانونية في بعض البلدان، ففي مصر تم تعديل القانون في عام 2004، أما الجزائر في عام 2005، والمغرب عدل القانون سنة 2007، وهكذا دواليك في عدد من الدول العربية، الأمر الذي لم يحصل في لبنان حتى اللحظة بسبب غياب الإرادة السياسية.
وتؤكد شبّو أن الحملة في لبنان تمكنت من تحويل المطلب إلى قضية رأي عام، وأصبحت مطلباً أساسياً على كافة المنابر، ولم تعد تقتصر على النساء المتزوجات من أجانب، وإنما لكافة الناشطات والناشطين الحقوقيين الذين يرفضون الانتقاص من حقوق الإنسان.
كما تمكنت الحملة في 2010 من انتزاع حق الإقامة لأبناء وأزواج اللبنانية، وذلك خلافاً لما كان سائداً في السابق حين كانوا يحرمون من حق الإقامة في البلاد، وكان يطلب منهم تأمين كفيل، وحسابات مصرفية مجمدة. لا تعتبر شبّو أن ذلك كافياً لإنصاف اللبنانيات وأسرهن، ولكنه خفف جزءاً من المعاناة اليومية التي كانت ترهق أسرهن، و”إنما المطلوب الحق الكامل بالجنسية”.
كما أسهم النضال الحقوقي في فتح أبواب المدارس الرسمية أمام المولودين في لبنان من أب أجنبي، إذ تم استصدار استثناء من وزارة التربية للسماح لهم بالتسجيل في المدارس. وتؤكد شبّو أنه “من المعيب الحديث عن السماح للأطفال بالتسجيل في المدارس، لأن ذلك يشكل مساساً بحق التعليم للجميع”.
كما تشير إلى تقديم اقتراحي قانون لـ “منح المساواة التامة في منح الجنسية” في ظل ولاية المجلس النيابي الحالي، رافضةً أي استثناء أو تمييز في القانون.
أسباب عدم السير بالقانون
ومنذ عام 2018، تقدم مشرعون لبنانيون باقتراحين للسماح بمنح الجنسية لأبناء اللبنانية المتزوجة من أجنبي، إلا أن هذا الطرح لم يسلك الطريق إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، بسبب الخلاف بين الكتل النيابية. حيث تتداخل الحسابات والخلفيات الطائفية والتاريخية والسياسية مع هذا الملف. وتختلف نظرة الكتل منه، ففي أغسطس (آب) 2018، تقدم النائب الاشتراكي هادي أبو الحسن باقتراح قانون لمساواة الأم اللبنانية في حق منح الجنسية لأسرتها، وفي الاتجاه نفسه تقدمت نائبة “المستقبل” رولا الطبش بقانون في عام 2019، إلا أنه بعد مرور 3 سنوات لم يُقر. وفي المقابل، يتحفظ فرقاء آخرون على هذا الطرح لأسباب تعود إلى الخوف من إحداث خلل ديموغرافي بين مكونات النسيج الطائفي اللبناني.
وتؤكد بعض الجهات السياسية أن إعطاء الجنسية اللبنانية للفلسطينيين المتزوجين بلبنانيات أو لأولادهن، سيؤدي إلى سحب هويتهم الفلسطينية منهم، ويهدد حق العودة. كما أن هذا يتعارض مع ميثاق الجامعة العربية الذي يوصي الدول التي يعيش فيها لاجئون فلسطينيون بعدم توطينهم، وذلك للحفاظ على الهوية الفلسطينية وحق العودة.
أمّا السبب الثاني فهو مرتبط بالتوزيع الطائفي والديموغرافي في لبنان. ويعبر عدد من السياسيين في لبنان عن تخوفهم من أن يتأثر التوزيع الطائفي إذا جرى تعديل القانون، ما يؤثر على نتائج الانتخابات. من جهة ثانية، يربط البعض تعديل هذا القانون بإعطاء المغتربين اللبنانيين حق الانتخاب والتصويت. وهذا الأمر غير عادل، ذلك أن “عدد المغتربين يبلغ 12 مليوناً، فيما لا تتعدى نسبة اللبنانيات المتزوجات بأجنبي 10 في المئة من عدد هؤلاء المغتربين”.
كتبها الصحافي :
بشير مصطفى في انديبندت عربيّة