“القضاء” على القضاء والمصارف!
ليس من السهل على الإطلاق الدفاع عن المصارف في لبنان، باعتبارها إحدى الأطراف الرئيسية التي شاركت في الجريمة المنظمة والكارثية التي تعرض لها الشعب اللبناني، لكن في الوقت عينه لا يمكن إغفال أن أساس المعضلة المصرفية والمالية والاقتصادية في لبنان تسببت بها القيادة السياسية، التي أوصلت لبنان إلى هذه الكارثة المتضخمة والمستمرة التي يعيشها لبنان.
هذا الاستنتاج هو نقطة التقاطع الأساسية والمشتركة مع كل من درس وعاين الواقع اللبناني من أكاديميين ومتابعين محليين أو من بعثات خارجية وصناديق دولية ضامنة.
في الأصل
جوهر الموضوع أن الدولة بكل مكوناتها السياسية وسلطاتها المتنوعة المتضامنة، اتفقت بسبب العجز والخمول المقصود والفساد المتضخم والتراجع الإصلاحي والاقتصادي، على التشجيع وبإصرار على قرار ومسار الاستدانة من المصارف المحلية، بإغراءات كبيرة كانت تمثّلها الفوائد المنفوخة والمتصاعدة، تحت شعار الاستفادة من الرساميل الداخلية والاستدانة من المصارف المحلية أفضل من الارتهان للمصارف الأجنبية.
في المحصلة، فإن كرة الدين العام مع الفوائد الهائلة، والمنافع التي ترافقت مع تدهور الإدارة السياسية والمالية في البلاد، وسط سكوت وتغاضي وتدبير حاكمية مصرف لبنان، جعلت الأمر يخرج عن سياقه الطبيعي والمفيد، إلى أن انفجرت فقاعة الدين والفوائد، وأطاحت باقتصاد لبنان وماليته وقطاعه المصرفي وودائع ومدخرات مواطنيه، الذين تحولوا بغالبيتهم إلى متسولين مقهورين على أيدي قلة من زعماء المافيا السياسية المالية المتحكمة بمصائرهم.
مودعون ومصارف
خلال الساعات الماضية، كان الشعب اللبناني يتابع عبر وسائل الإعلام وقائع القرار القضائي الذي أصدرته رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت، القاضية مريانا عناني، والذي قضى بإلقاء الحجز التنفيذي على جميع أسهم وعقارات وموجودات فرنسبنك، والحجز على جميع موجودات فروعه بما فيها الخزائن والأموال وختمها بالشمع الأحمر.
الانطباع الأولي في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يشير إلى أن القضاء انتصر لأحد المودعين، الذي رفض المصرف رد وديعته بالعملة الأجنبية. وهذا ما يدخل السرور والبهجة المؤقتة إلى نفوس الكثير من المواطنين المقهورين في لبنان والمهجر، المستلبة أموالهم.
الأمر لا يقف عند هذه الحدود! فمعالم الصورة في الحادثة المشار إليها ناقصة وقاصرة عن تكوين كل العناصر المطلوبة للخروج باستنتاج كامل.
الموضوع هنا ليس موضوع مودعين ومصارف فقط، فهذه الواقعة ليست معزولة عن ما جرى خلال الأيام التي سبقتها تجاه بعض المصارف.
غادة عون
فقد أقدمت مدعي عام جبل لبنان، أي قاضي قضاة العهد الميمون، القاضية غادة عون، من وقت ليس ببعيد على استدعاء إدارة مجموعة من المصارف إلى التحقيق، علماً أن مدعي عام التمييز ومجلس القضاء الأعلى منعا القاضية المذكورة من التعاطي في الشؤون المالية. لكنها استمرت بالرغم من هذا القرار، في المداهمات والتحقيقات مع مصارف وشركات مالية، في سابقة ندر أن شهدتها أي دولة قبل لبنان، حيث يقدم أحد القضاة على فتح عدلية خاصة به، ويمارس ما يريد من دون أي التفات لأحد في الجمهورية الزاهرة.
الأمر الخطير يكمن هنا، أي في انشقاق الأداة الأساسية للعلاج، أي بعض القضاء نحو الشطط والخبط العشوائي والاستنسابي، لأهداف لا يعرفها إلا من حرك هذا الجناح من القضاة.
إجراءات القاضية عون من دون حاجة للتعريف السياسي بجذورها وخلفياتها السياسية، استمرت، وأقدمت بعد جلسات الاستماع غير القانونية مع المصارف، على إصدار قرار بمنع السّفر بحقّ رؤساء مجالس إدارة خمسة مصارف لبنانيّة، وهم سليم صفير عن “بنك بيروت”، سمير حنا عن “بنك عوده”، أنطوان الصحناوي عن “سوسيتيه جنرال”، سعد الأزهري عن “بلوم بنك”، وريا الحسن عن “بنك ميد”.
بعد منع السفر، أتى قرار آخر وقضى بمنع تصرف أصحاب المصارف عينها بأملاكهم العقارية والمنقولة، بناءً على الدعوى القضائية المحررة ضدهم من مجموعة “الشعب يريد إسقاط النظام”.
مصير المصارف
ترى ما هي انعكاسات هكذا قرار على صورة وسمعة المصارف اللبنانية في العالم؟
وكيف تنظر المصارف العالمية المراسلة إذا ما بقي هناك من يراسل، إلى مصارف لبنان بعد هذا القرار؟
للعلم، فإن مصارف لبنان باتت لأكثر من سبب، ومن بينها ما تم مؤخراً، تسابق مصارف روسيا بالخروج من النظام العالمي.
وإذا كانت المصارف الروسية قد خرجت من نظام السويفت، بسبب غزو الجيش الروسي لأوكرانيا، وبطلب من واشنطن، فإن المصارف اللبنانية تكاد تخرج من نظام السويفت العالمي بسبب غزوات القاضية الرشيقة الناشطة خارج القوانين.
من يثق بعد الآن، أو يتعامل مع مصارف في أي بلد، حين يعلم أن القضاء وضع يده على أملاكها وختم خزائنها بالشمع الأحمر؟
ومصير القضاء
هذه التدابير مطلوبة وضرورية في حال كانت الأداة التي تتولى المهمة شفافة ومشهود لها بالنزاهة والحيادية، وليست أداة سياسية بيد طرف من الأطراف المغرضة والمخربة للبلاد والنظام والاقتصاد؟
النتيجة الحاصلة الآن، أنه وبسبب هذه الممارسات يتم القضاء على مؤسسة القضاء، التي لم تصدر حتى الآن تشكيلاتها بالرغم من كل التوسلات. وإذا ما استمرت هذه الاندفاعة القضائية المستهجنة والعشوائية في هذا التوقيت الانتخابي، نحو المصارف، فهي من دون شك ستكون أيضاً على طريق الانهيار الكامل والخراب المحتم الذي لا يمكن إصلاحه.
المصدر :
المدن.