الطبقة الوسطى اللبنانية تندثر
اثار تقرير في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، نشر في 21 مايو (أيار) بعنوان “موت الطبقة الوسطى في لبنان، بلد له تاريخ مدعاة للفخر في التجارة وتبادل الخدمات، بدأ يتهاوى نحو فقر دائم”، الهلع على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
يبدأ التقرير من مدينة طرابلس الشمالية، ثاني أكبر المدن اللبنانية، ويتحدث عن الناشطين وجهودهم الخيرية التي كانت تركز في الأصل على التواصل مع اللاجئين السوريين، ولكن اليوم تحولوا للبحث عن أحياء الطبقة المتوسطة في المدينة، المليئة بالمباني السكنية والمحلات التجارية، ذات الشكل الجيد من الخارج، ولكن العائلات في داخلها بحاجة ماسة للمساعدة.
يضيف التقرير أنه على مدى الأشهر القليلة الماضية، ومع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 60 في المئة، وعلى وجه التحديد، بسبب وباء كورونا الذي سبّب إغلاق مؤسسات تجارية وتسريح عمال بشكل جماعي، أدرك العاملون في المجال الخيري، أن الفقر أصبح تجربة جديدة وأكثر انتشاراً، لسكان المدينة والبلد ككل. ويتفهم السكان المحليون، كما العاملون في المجال الإنساني، المأزق، حيث يقومون بتوزيع مغلفات بيضاء صغيرة تحتوي على 350 إلى 550 دولاراً نقداً، تبرع بها مغتربون طرابلسيون، لبعض المحتاجين.
وتنقل المجلة عن هالة كبارة، الناشطة في منظمة “سانوبل إيد” (Sanobel Aid)، قولها “لم تكن الطبقات المتوسطة في لبنان غنية، لكنها كانت تستطيع أن تدفع إيجار منزلها وإرسال أبنائها إلى مدارس لائقة. الأمر أصبح أصعب بكثير”. وتضيف، “قدمنا المال لنحو 100 من هؤلاء النساء، لكنهن كنَّ يخجلن منه”.
مليون عاطل من العمل
لم يكن تقرير “فورين بوليسي” هو الوحيد “الكارثي” في هذه الفترة، إذ تبعته دراسة صادرة عن الدولية للمعلومات تشير إلى أن عدد العاطلين من العمل قبل 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، كان نحو 350 ألفاً أي ما نسبته 25 في المئة من حجم القوى العاملة، وهذا الرقم يؤكده بعض وزراء العمل السابقين.
لكن نتيجة حالة الشلل التي شهدها لبنان منذ ذلك التاريخ والتي زادت حدةً مع تفشي وباء كورونا فقد صرف من العمل نحو 80 ألفاً، ليرتفع العدد الإجمالي إلى 430 ألفاً أي (32 في المئة).
ولا تتوافر أرقام رسمية حول أعداد العاطلين من العمل ونسبة البطالة في لبنان، على الرغم من أهمية هذا الأمر كمؤشر اقتصادي واجتماعي. فنسبة البطالة التي أعلنتها إدارة الإحصاء المركزي بعد مسح بالعينات جرى بين أبريل (نيسان) 2018 ومارس (آذار) 2019 هي 11.6 في المئة. أما منظمة العمل الدولية، فقدرت نسبة البطالة بين الشباب اللبناني بنسبة 22 في المئة عام 2013، فيما قدرها البنك الدولي بنحو 34 في المئة، أي شاب واحد عاطل من العمل بين كل ثلاثة.
وتكشف أرقام البنك الدولي لعام 2018 أن 23 ألف شخص يدخلون سوق العمل سنوياً، مما يحتّم خلق أكثر من 6 أضعاف عدد الوظائف الموجودة أساساً، علماً أن متوسط فرص العمل التي كانت متاحة بين عامي 2004 و2007 بلغ 3400 وظيفة فقط.
تراجع على المستويين الاجتماعي والاقتصادي
“اندبندنت عربية” سألت مؤسس “الدولية للمعلومات” الباحث جواد عدرا، عن تداعيات هذه الأرقام على الوضع اللبناني، فأمل بأن لا نصل إلى هذا الرقم، قائلاً إنه على الرغم من “صعوبة الأوضاع، فإنه بالإمكان عدم الوصول إليه، في حال اعتماد خطة لمواجهة الأزمة الحالية”.
أما عن التداعيات، فيقول إنها “خطيرة، فهي سترفع نسبة الفقر المقدرة حالياً بـ55 في المئة إلى 70، لأن البطالة هي مرادفة للفقر. كما قد نشهد انتشار الجريمة وعصابات السرقة والقتل للحصول على المال”.
يضيف عدرا أن من تداعيات البطالة أيضاً “تدمير القيم الاجتماعية التي ما زال اللبناني محافظاً عليها حتى الآن، على الرغم من كل الظروف، حيث قد تتراجع معدلات الزواج وترتفع معدلات الطلاق”.
وماذا تستطيع أن تقدم الوزارات المعنية كالشؤون الاجتماعية ووزارة العمل، في مثل هذه الظروف؟
يرى عدرا، أن الوزارات المعنية ومن خلال المؤسسة الوطنية للاستخدام ووزارات الشؤون الاجتماعية والاقتصاد والمالية والصناعة والزراعة، تستطيع أن تعمل على خطة لمكافحة البطالة وتعزيز قطاعات الإنتاج في الزراعة والصناعة، مثل “زيادة المساحات المزروعة بـ200 ألف هكتار، والاستفادة من ارتفاع سعر صرف الدولار لزيادة الإنتاج الصناعي للسوق المحلية والتصدير”. ويضيف أنه “سنضطر إلى الاتكال على الذات في الصناعة والزراعة وفي أعمال البناء والخدمات كافة”.
ويشير عدرا إلى أن لكورونا التأثير الكبير في الوضع الاقتصادي، “الذي كان منهكاً والوباء زاد الوضع صعوبة، وعلى الحكومة اتخاذ الخطوات العملية لتشجيع اليد العاملة المحلية وبرمجة التخصصات وفقاً لمتطلبات سوق العمل”. ويؤكد أنه إذا وضع البلد على المسار الصحيح وفق رؤية واضحة، فسينهض في بضع سنوات.
مئات المؤسسات تقفل أبوابها
وكانت آخر الأرقام التي كشفها نقيب أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان طوني الرامي، أكدت أن عدد المؤسسات التي تتعاطى الطعام والشراب، واضطرت إلى الإقفال في ظل هذه الأزمة، ناهز الـ 785 مؤسسة في الفترة بين سبتمبر (أيلول) 2019 و1 فبراير (شباط) 2020. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي وحده أقفلت 240 مؤسسة، كانت غالبيتها في محافظتي جبل لبنان (54.6 في المئة) وبيروت (29.4 في المئة). وفاق عدد الموظفين المصروفين من العمل نحو 25 ألفاً، في حين اضطر آخرون إلى العمل بدوام جزئي وبنصف راتب، نتيجة تدني أرقام المبيعات بنسبة 75 في المئة.
واستناداً إلى دراسة لشركة “Infopro”، بلغ عدد العاطلين من العمل منذ بدء الأزمة 160 ألف شخص، ويتوقع أن يبلغ في السنة الحالية نحو 250 ألفاً إلى 300 ألف. وفي دراسة لإدارة الإحصاء المركزي، سجل ارتفاع معدّل البطالة لدى الشباب مع ارتفاع المستوى التعليمي، إذ يتخطى 35 في المئة عند الشباب من حملة الشهادة الجامعية.
مستوى الفقر
وتشير دراسة أعدها البنك الدولي بالتعاون مع إدارة الإحصاء المركزي، ونشرت عام 2016، إلى أن ربع مليون مواطن لبناني (235 ألفاً) يعيشون في حالة فقر مدقع، أي بأقل من 5.7 دولار في اليوم الواحد. مما يعني أن 8 في المئة من اللبنانيين لا يستطيعون تأمين الحاجات الغذائية اليومية.
كما أن هناك ما يقارب المليون مواطن يعيشون بأقل من 8.7 دولار في اليوم. وتدل الأرقام إلى أن 27 في المئة من اللبنانيين هم من الفقراء الذين لا يستطيعون تلبية حاجاتهم المعيشية الأولية. وتتزايد نسبة الفقر لتبلغ 36 في المئة في شمال لبنان و38 في البقاع.
وتشير كثير من الدراسات إلى أن نسبة الفقر في لبنان، شهدت ارتفاعاً لافتاً بعد الحرب السورية.
لكن الباحث المالي والاقتصادي وليد أبو سليمان يؤكد لـ”اندبندنت عربية”، أن نسبة الفقر حالياً تخطت الـ50 في المئة، مشيراً إلى أن ارتفاع نسبة البطالة سينعكس على الحركة الاقتصادية والتي ستصبح أكثر بطئاً، مما يعني تراجع القدرة الشرائية، “وقد نشهد اضطرابات اجتماعية، وهذا ما يحصل راهناً وينذر بمزيد من التصعيد”.
اضمحلال الطبقة الوسطى
وعن المؤشرات التي تفيد بأن الطبقة الوسطى لم تعد موجودة في المجتمع اللبناني وكيف تأثرت بانهيار الليرة وارتفاع سعر الدولار، يقول إن “تلك الطبقة كانت تشكل قبل ثمانينيات القرن الماضي حوالى 80 في المئة من المجتمع، لكنها تقلصت بعد التسعينيات إلى حوالى 20 في المئة، وتراجعت اليوم إلى حدودها الدنيا نظراً لوجود أكثر من مليون فقير، بعدما كانت هذه الطبقة محرك الاقتصاد”.
أما عن جاهزية الدولة اللبنانية لمواجهة الأزمة، فيقول أبو سليمان إن “الدولة ليست جاهزة، لأنها تعاني من تعثر أصلاً في سداد ديونها، وأقصى ما يمكن أن تقوم به هو تأمين شبكة أمان اجتماعية، وتطبيق القانون الذي أقرته في مجلس النواب، مع أن مبلغ الـ1200 مليار ليرة نقطة في بحر الأزمة الحاصلة. كما أن الوزارتين المعنيتين، أي الشؤون الاجتماعية والعمل، لا تستطيعان القيام بهذه المهام، لأن أصحاب الشركات يقومون بتسريح العمال ليس بسبب كورونا فحسب، بل بسبب الأزمات المالية والاقتصادية المتراكمة أيضاً”.
ويشير أبو سليمان إلى أنه “بالإمكان الخروج من الكارثة ولكن على الحكومة القيام بخطوات إصلاحية لا تتطلب اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي، ومنها مكافحة الهدر والفساد وهيكلة القطاع العام واستعادة الأموال المنهوبة وتلك التي هرّبت إلى الخارج، وترميم الثقة لإعادة ضخ الرساميل المخبأة في المنازل في الأسواق والدورة الاقتصادية”.
المصدر: “إندبندنت عربية”